من المسؤول عن ازمة الغذاء؟

من المسؤول عن ازمة الغذاء؟

jeudi 18 septembre 2008

الاتحاد العام لطلبة تونس = تاريخ حافل بالنضالات

لإهداء:
إلى شهداء الحركة الطلابية والشعبية، إلى فاضل ساسي وفتحي فلاح ونبيل بركاتي...
إلى الذين رحلوا قبل الأوان: فاطمة البحري وسامي بن عمر والساسي الزيادي ومنير المرائحي وعمار التابعي وعائدة الهاني ومحمد لعجيمي وفتحي الدهماني وسمير بن ابراهيم وجلال الخوني...
إلى كل الأجيال الطلابية التي صنعت أمجاد الحركة وناضلت من أجل تثبيت الهوية النضالية للاتحاد العام لطلبة تونس، أطرافا وذواتا....
إلى الجيل الحالي من مناضلي الحركة والاتحاد

ظل الشباب وسيظل محور صراع دائم بين القوى التقدمية والثورية التي تسعى إلى تقويض السائد وطرح البدائل له، وبين القوى الرجعية المحافظة التي تعمل من أجل تأبيد السائد أو تعميقة وتثبيته. ويتجلى ذلك من خلال خنق كل تطلع للتحرر والانعتاق. إن الشباب (كفئة عمرية) يزخر بطاقات هائلة، يتحلى بحماس كبير كلّما وقع توظيفه (أي الحماس) بشكل ثوري إلا وكان خزّانا لإرادة التغيير الحقيقي ومعينا لا ينضب ضمن قوى التحرر والانعتاق لذلك كان الشباب في بلادنا ولازال مجال صراع بين مختلف القوى الاجتماعية والسياسية، فكان بورقيبة ومن بعده بن علي يعتبرانه "عماد الأمة" و"سند التغيير"... واعتبرته القوى الظلامية قوة دفع هائلة لمشروعها القروسطي الرجعي الذي يسعى لتأبيد تخلف شعبنا، كما كان الشباب مع أطروحات اليسار والقوى التقدمية حليفا أساسيا للطبقات الشعبية في نضالها من اجل الخبز والحرية والكرامة الوطنية، فكان الشباب العامل القوة الرئيسية في تجربة محمد علي الحامي النقابية (جامعة عموم العملة التونسيين) وتجربة حشاد، فضلا عن أن مختلف فئات الشباب كانت عمود نضال الشعب التونسي ضد المستعمر الفرنسي (تجربة "الفلاقة"، الحركة الاجتماعية والسياسية...) وضد الدكتاتورية البورقيبية والبنعلينية، فكان الشباب من مختلف مواقعه (العامل والفلاحي والطلابي والتلمذي والعاطل عن العمل...) سندا للاضراب العام النقابي في 26 جانفي 1978 وانتفاضة الخبز في جانفي 1984 وفي مساندة القضايا القومية في 1967 و1982 عندما هبّ شباب تونس لدعم المقاومة الفلسطينية الباسلة وفي 1990 عندما تميّزت نضالات الشباب التونسي في مناصرة العراق الصامد، كما ظل الشباب دائما شوكة في حلق نظام الحكم الدكتاتوري بتصدّره لمعارضة النظام الدستوري في العهدين، وهنا لا يمكن إلا أن نؤكد ونثني على دور الشباب الطلابي، الذي كان في كل حقب تاريخ البلاد المعاصر، متميزا ودؤوبا رغم خضوع حركته لفترات مد وفترات جزر وانصهاره ضمن سمات الوضع العام تأثيرا وتأثرا، لقد كانت حركة الشبيبة الطلابية على الدوام بؤرة للنضال والرفض سواء فـي مرحلة الاستعمـار المبـاشر (حركة الطالب الزيتوني ثم الاتحاد العام لطلبة وتلامذة تونس) أو في مرحلة الاستعمار الجديد بعد الاتفاقية الخيانية المسماة زيفا استقلال (اتفاقية 20 مارس 1956)، إذ كان الطلبة من أول الفئات التي عارضت نظام حكم بوقيبة وسياساته اللاوطنية واللاشعبية واللاديمقراطية، سواء في مجال التعليم أو في بقية المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. لذلك كانت الجامعة التونسية منذ أوائل الستينات وخاصة منذ منتصفها موقعا متقدما للمعارضة اليسارية التقدمية التي تجندت للنضال سواءا الجامعي الخاص أو الشعبي العام، فخاضت الجماهير معركة استقلالية الاتحاد مدشنة بذلك أول معركة ديمقراطية تتعلق باستقلالية المنظمات الجماهيرية، كما طرحت الجماهير الطلابية معركة السياسة التعليمية في تونس، لتتجذّر نضالات الحركة الطلابية في السبعينات خاصة مع /وإثر/ حركة فيفري 1972 المجيدة التي ثبّتت وبدون رجعة الهوية النضالية لحركة الشباب الطلابي التونسي ولمنظمته المستقلة والمناضلة: الاتحاد العام لطلبة تونس، التي وقع تثبيت خطّها التقدمي والديمقراطي الحقيقي، وقد خطّت الأجيال الطلابية المتعاقبة وضمن توجهات فيفري 72، اللحظات المضيئة للحركة والشعب من خلال الالتزام بمشاغل وهموم وقضايا الجماهير الطلابية والشعبية عموما، لذلك حظيت الحركة الطلابية التونسية بصيت محترم وسمعة طيبة في الحركة الطلابية العربية والعالمية، لذلك كانت دائما هدفا للفاشية الحاكمة التي ظلت تتربص بالحركة قمعا وإرهابا، ولا نضيف جديدا حين نقول أن نصيب الحركة من القمع كان "نصيب الأسد" وسوف يجد القارئ في هذا الكتاب ما يؤكد ويدعم هذا الأمر، كما كانت الحركة الطلابية والجامعة "مخبرا" لكل الأفكار والأطروحات السياسية من الأطروحات الثورية والتقدمية إلى الأخرى اليمينية والرجعية، على أن الحركة الطلابية وإن حافظت في عموم تجربة نضالها على روح كفاحية عالية وعلى سلامة في التوجهات العامة، فإنها لم تنج من الانحرافات وفترات الركود والارتداد، سواء بفعل القمع والحصار الذي تشترك فيه مع باقي فعاليات المجتمع، أو بفعل المناورات والانحرافات اليمينية طورا واليسراوية تارة التي تلتقي في حجم الأضرار التي ألحقتها ولازالت تلحقها بالحركة وبنضـالها، والأجيال الطلابية تعرف ما ألحقته مختلف هذه التقليعات من أضرار بالغة بالحركة خاصة منذ أواخر السبعينـات، ونقصد الأضرار المتأتية من مكونات الحركة الطلابية، لأن أضرار الفاشية الدستورية حاصلة في كل الأطوار. لقد كانت أواخر السبعينات إيذانا بدخول الحركة في أزمة كان من بين عناصر تعمّقها ظهور الإفرازات اليسراوية (تفرعات الشعلة في الجامعة: الوطد، المود....) وظهور التيار الظلامي على سطح الأحداث والذي سيلهي الحركة ويشتت مجهوداتها وذلك خاصة طيلة الثمانينات، وهم الذين كانوا ذراع حزب الدستور لمقاومة اليسار في البداية ثم إلهاء الحركة بصراع بين قطبي الفاشية في تونس لا مصلحة للشعب فيه، فضلا عن أحداث أول انقسام في الحركة الطلابية ببعث نقابة حزبية موازية سمّيت زيفا: الاتحاد العام التونسي للطلبة. وبتصفية التيار الاسلامي من الجامعة سنة 1991، وباشتداد وتيرة القمع والارهاب والحصار الذي أضرّ بأداء مختلف الأطراف السياسية في الجامعة التي "انسحب" أغلبها وبقي بعضها القليل يقاوم، انتعشت الأطروحات اليمينية كانعكاس لهذا الوضع الجديد في الجامعة مما زاد في تعقيد الأوضاع، ولازالت تقليعات اليمين الطلابي تعطّل الحركة والاتحاد أساسا الذي كرّست تهمّشه واستقالته شبه الكاملة من الحياة الجامعية والطلابية وخاصة منذ الانقلاب الذي قادته مجموعة اليمين الانتهازي في أفريل 2000 ("المؤتمر 23") والتي عمّقت أزمة المنظمة الطلابية وأجّلت ساعة عودتها لسكة النضال وهو أمر لا نخاله يخدم إلا السلطة الفاشية التي ظلت تراهن على تفكك المنظمات الجماهيرية المناضلة من الداخل كما تراهن على القوى الانتهازية يسراوية كانت أم يمينية، وأن النضال اليوم يجب أن ينصبّ في جانب منه على هذه القوى وخاصة اليمين المهيمن اليوم على مفاصل المنظمة بالتزوير والتدليس والانقلاب والتزكية من طرف دولة البوليس.
إن إ.ش.ش.ت، إذ يتقدّم بهذا الكتاب كمساهمة منه في إنارة مناضلي الحركة الطلابية في إطار جهد توثيقي لتاريخ الحركة ضمن مقاربة تقييمية نقدية تثمن الثوري والأصيل وتدحض الرجعي والمنحرف، وإننا بهذا الجهد نرجو أن نكون قد ساهمنا ولو بقدر بسيط في حفظ إرث الحركة، علما وأن شحّ الموارد التوثيقية وندرة ما كُتب حول تـاريخ الحركة الطلابية وقف حائلا دون التعمق في قراءة عديد اللحظـات أو المرور عليها سريعا دون قصد تقزيم أو استنقاص.
إن هدف عملنا هذا الذي نعدّه تعميقا ومواصلة لكتاب أصدرناه في نوفمبر 1998 بعنوان "الاتحاد العام لطلبة تونس: اللحظات الحاسمة والدروس الجوهرية" إنما هو استخلاص الدروس الأساسية التي هي دروس النضال والمقاومة على قاعدة نقد ومراجعة الأخطاء والتراجعات في الحاضر والماضي بهدف التحضير للمستقبل بروح جديدة قادرة على التجاوز البنّاء وعلى تجذير الإيجابي والثوري الذي من شأنه الإرتقاء بأداء الحركة الطلابية كجزء لا يتجزّأ من الحركة الشعبية وكفصيل مناضل في الحركة الديمقراطية التقدمية.
إن الحركة الطلابية التونسية مؤهلة بحكم تجربتها وإرثها النضاليين، وبحكم المهام المطروحة أمام حركة الشباب المثقف أن تلعب دورها بالكامل في معركة شعبنا من أجل تحرره الوطني وانعتاقه الاجتماعي، وفي الانخراط في معركة النضال من أجل فرض الحرية السياسية كمهمة ملحّة ومباشرة أمام الشعب التونسي وقواه الديمقراطية والتقدمية، وفي إطار مهامّ الحركة يتبوّأ الاتحاد العام لطلبة تونس مكانة مركزية باعتباره هيئة الأركان التاريخية للحركة، وهو ما يطرح اليوم على مجمل القوى التقدمية بالجامعة العمل من أجل استرجاعه وعودته إلى سكة النضال. هذه القوى التي راكمت من الخبرة العملية في مقاومة عصابة اليمين المغتصب لقيادة المنظمة، ما يجعلها قادرة على تجاوز أخطائها والتأسيس لعمل فعال وواسع يكون لبنة في اتجاه عمل جبهوي جماهيري يجذّر خط الحركة وهوية الاتحاد.

I - الاتحاد العام لطلبة تونس من التأسيس إلى انقلاب قربة 1971:
يختلف الدارسون لتاريخ الاتحاد العام لطلبة تونس حول التاريخ الفعلي لإعلان تأسيس الاتحاد، بين مرجّح لشهر فيفري 1952 أو شهر جويلية 1953، حيث انعقد مؤتمر سُمّي "المؤتمر التأسيسي" بباريس أيام 10 -13 جويلية 1953، على اننا نرجّح أن الاتحاد تاسس في شهر فيفري 1952 وأن مؤتمره الأول سُمّي "المؤتمر التأسيسي". جاء في مجلة "المغرب" التي تصدرها مؤسسة العلوم السياسية الفرنسية، في عددها التاسع لسنة 1965 (ماي /جوان) ما يلي: "تأسس الاتحاد العام لطلبة تونس في السرية في فيفري 1952 بتونس ووجد المساعدة الضرورية لانطلاقه لدى الاتحاد العام التونسي للشغل وبصورة خاصة من الأمين العام في ذلك العهد فرحات حشاد ولم تكن هذه المساعدة داخليا فقط بل تعدت ذلك إلى الصعيد الدولي، حيث كانت أول هيئة اعترفت بالا.ع.ط.ت هي المكتب العالمي الدائم للتعليم إثر مبادرة من ممثل الجامعة الوطنية للتعليم التابعة للا.ع.ت.ش، كما أن الدراسات التي انجزتها هذه الجامعة كانت المنطلق الذي اعتمده المؤتمر التأسيسي للاتحاد في نقاشاته حول الوضع التعليمي في تونس".
إذن، في فيفري 1952 تأسس الاتحاد العام لطلبة تونس، في غمرة النضال الوطني، وبدعم من أكثر القوى الاجتماعية تجذّرا. لقد تاسس هذا الاتحاد أياما فقط بعد إعلان الثورة المسلّحة في 18 جانفي 1952 (من طرف كل قوى الشعب) ضد الاستعمار الفرنسي الذي جابه نضال الجماهير بمزيد من القمع والقهر خاصة منذ صدور مذكرة 15 ديسمبر 1951 من لدن وزير الخارجية الفرنسي إلى رئيس الحكومة التونسية حول كيفية تسيير الشؤون الداخلية بالبلاد، وقد أعلنت هذه المذكرة نهاية تجربة حكومة شنيق وبداية المواجهة المفتوحة بين الشعب بكل قواه السياسية والاجتماعية والمستعمر وعملائه الذي طبّق بشكل صارم حالة الطورئ السارية منذ أحداث 9 أفريل 1938، فمنع الجولان وفرض الرقابة على الأحزاب والمنظمات، ونظم حملات الاعتقال والاغتيالات والنفي بهدف تركيع الشعب وإذلاله، لكنّ الشعب لم يستسلم بل نظّم المقاومة، فكانت الاضرابات والمظاهرات وتطورت حركة "الفلاّقة" التي مثلت نواة جيش تحرير شعبي حقيقي، وقد برزت الطبقة العاملة كقوّة اجتماعية هامة بعد صمود منظمتها النقابية: الاتحاد العام التونسي للشغل على عكس الحزب الدستوري الجديد الذي انهار بصفة شبه كلية.
في خضمّ هذا الوضع الثوري، لعب الشباب عامة وشباب المدارس الثانوية والطلبة خاصة دورا متميّزا في هذه النضالات، إذ شملت إضراباتهم كل مدن البلاد وتعرّض العديد منهم للاعتقال والطرد من الدراسة كما جُرّدوا من كل الأطر القانونية التي كانت تنظمهم، في هذا الظرف بالذات ووعيا منهم بقيمة التنظم ودوره في تأطير نضالهم، عمد شباب المعاهد والجامعة إلى تأسيس منظمة سرية تقوم بهذا الدور، فكان ميلاد الاتحاد العام لطلبة (وتلامذة) تونس في فيفري 1952 الذي بدأ نشاطه بإعلان الإضراب العام يوم 16 مارس 1952 بكامل مدارس ومعاهد البلاد احتجاجا على حملة التمشيط التي قام بها المستعمر بجهة الوطن القبلي، فجسّمت بذلك وحدة الصفّ الطلابي والتلمذي وانصهاره في تيّار النضال الشعبي الوطني وهو الخيار والخط النضالي الذي سيميّز الاتحاد وسيتأكد في مؤتمر جويلية 1953 الذي فرضت الظروف القاسية التي تمرّ بها البلاد، أن يعقد بباريس.
1- المؤتمر التأسيسي: توجهات وطنية راديكالية:
انعقد "المؤتمر التأسيسي" (بعد عام ونصف من إعلان التأسيس في السرية بتونس) بباريس أيام 10-11-12 و13 جويلية 1953 وكان أغلب نوابه من الطلبة التونسيين الذين كانوا منتظمين في "جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين".
وكما جاء في حيثيات هذا المؤتمر، كان هدف الاتحاد الأساسي هو تشكيل فصيل جديد للنضال ضد الاستعمار الذي كان يخوضه الشعب التونسي وخاصة طبقته العاملة بقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل وزعيمه فرحات حشاد الذي تم اغتياله يوم 5 ديسمبر 1952. ومن خصائص هذه المنظمة الطلابية انغراسها في العدد المحدود من مؤسسات التعليم العالي (والتعليم الثانوي) بتونس والمرتبطة بالجامعة الفرنسية وفي أوساط الطلبة التونسيين الدارسين بفرنسا، كما ضم الاتحاد الجناح القديم للحركة الطلابية المرتبطة بالجامعة الزيتونية ("تجربة صوت الطالب") وخـاصة العنـاصر الموالية للخط اليوسفي داخل الحزب الدستوري، على أن أميز ما يميّز الاتحاد هو تجذّر مواقفه من الاستعمار (عكس الجناح اليميني للحزب الدستوري القريب من فرنسا: جناح بورقيبة) وهو ما يؤكده شعار المؤتمر: "الاصلاح التعليمي الجذري والكفاح من أجل الاستقلال الوطني السياسي والاقتصادي والتقدم الاجتماعي" حيث وقع تناول قضيّتين جوهريّتين: الوضع التعليمي والنضال الوطني، ففي الجانب الأول قدّم المؤتمر كشفا مرقّما لأوضاع التعليم في تونس المتميّز بكونه دون حاجيات البلاد وبالتفاوت الطبقي الصارخ من حيث التمتع به بين أبناء تونس وأبناء المعمّرين، كما بيّن أن نظام التعليم يهدف إلى تحطيم الشخصية الوطنية بإهمال تدريس اللغة العربية مؤكدا أن أسباب ذلك تعود إلى الاستعمار في حد ذاته. لذلك يعدّ الاستقلال الوطني هو السبيل الوحيد للارتقاء بهذا الوضع، كما حلل المؤتمر واقع التعليم الزيتوني مقدّما تصوّرا بديلا ينصّ على: تعليم ابتدائي إلزامي للبنت والولد على حد السواء.
أما فيما يخص النضال الوطني، فقد قدّم المؤتمر عرضا لنضال الشعب منذ دخول الاستعمار للبلاد منتهيا إلى المرحلة الدقيقة التي يمرّ بها هذا النضال (بداية الخمسينات) موضحا دور التلاميذ والطلبة ومنظمتهم في دفع هذا النضال بعد أن قدّم تحليلا ضافيا للنظام الاستعماري وميزاته السياسية والاقتصادية مستخلصا الحلول الملائمة لتغيير الأوضاع. وقد ورد في هذا العرض ما يلي: « إن نظرتنا ثورية وليست إصلاحية وانتهازية، وإن الاستقلال وحده هو القادر على أن يحمل لشعبنا التعليم الديمقراطي والثقافة الوطنية التي نطالب بها، ولبلادنا الحرية والرفاهية التي نناضل من أجلها. إن هذا الاستقلال الذي هدر الشعب دمه من أجله سيكون لصالحه كاملا، استقلالا سياسيا لا شك في ذلك، ولكن أيضا اقتصاديا وتقدّما اجتماعيا"، وعلى قاعدة هذه المواقف الجريئة والواضحة خطّ الاتحاد توجهاته وممارسته النضالية، لذلك رفضت السلط الاستعمارية الاعتراف به.
وقد عقدت المنظمة الطلابية مؤتمرها الموالي في تونس في 14 جويلية 1955 بالحيّ الزيتوني وقد حضرته كل المنظمات والأحزاب وكان صالح بن يوسف من بين الذين أبرقوا للمؤتمر مثمّنا انعقاده ومحيّيا النشاط الطلابي.
2- الاتحاد العام لطلبة تونس بعد 1956: الإلحاق والهيمنة.
في 20 مارس 1956، أبرم بورقيبة اتفاقية "الاستقلال" بعد إبرام اتفاقية "الاستقلال الداخلي" سنة 1955، وقد رفضت عديد القوى هذه الاتفاقية الخيانية وخاصة التيّار اليوسفي داخل الحزب الدستوري والطلبة سليلي تجربة "صوت الطالب" الملتفّة حول بن يوسف الذي نادى بمواصلة الكفاح المسلّح من أجل استقلال كامل شمال إفريقيا في إطار جبهة عربية مناهضة للامبريالية، وقد كان ردّ بورقيبة تصفويا إذ جرّد "الفلاقة" من أسلحتهم بدعم من الجيش الفرنسي. وصفّى المعارضة اليوسفية (محاكمات، اغتيالات...) وقد كان من ضحايا بورقيبة العديد من الطلبة، كما سعى إلى تدجين وإلحاق كل المنظمات الجماهيرية (اتحاد الشغل، اتحاد الطلبة...) بدعوى "الشرعية التاريخية" له ولحزبه. كما تمت تصفية الجامعة الزيتونية، والتي فضلا عن التوجهات "العصرانية الحداثوية" ذات الخلفية الغربية لبورقيبة، فإن تصفية الجامعة كانت كذلك بهدف تصفية هذه البؤرة الرافضة لتتأسس الجامعة العصرية بدعم فرنسي وخاصة أمريكي لإنتاج كوادر لجهاز الدولة الاستعمارية الجديدة المرتبطة بمصالح الرأسمال العالمي. لقد رفضت الحركة الطلابية التونسية التدجين والهيمنة المفروضة على أداتها النقابية. وخاضت صراعا عنيدا امتد أكثر من عقد ضد إلحاق الاتحاد العام لطلبة تونس للحزب الدستوري الذي ناضلت الحركة ضدّه وضد اختياراته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وقد بدأ النضال الواسع ضدّه منذ بداية الستينات، فأدانت الجماهير الطلابية المجزرة التي تعرّض لها الشعب في بنزرت سنة 1961 حين دفع النظام بالآلاف من أبناء الشعب العُزّل أمام الجيش الفرنسي المجهّز بأحدث الأسلحة، كما نظّم الطلبة التقدميّون اجتماعا عامّا ببورصة الشغل بتونس للتنديد باغتيال الزعيم الوطني الكونغولي باتريس لوممبا، وقد تدخّل البوليس بمعاونة "الطلبة الدستوريين" لتعنيف الطلبة، كما تمكّن الطلبة في ديسمبر 1961 من منع محمد الصيّاح كاتب عام الاتحاد آنذاك من ترأس اجتماع عامّ تمخّضت عنه ثلاث لوائح: الأولى حول استقلالية الاتحاد، والثانية حول معركة بنزرت، والثالثة حول الأوضاع المعيشية للطلبة.
رغم الرفض الطلابي لهيمنة حزب الدستور على الاتحاد فإن المؤتمر 11 المنعقد بالكاف في شهر أوت 1963 قرر تقنين تبعية الاتحاد للحزب الدستوري عبر تبني ما سمّي بـ"ميثاق الطالب التونسي" كما قرر حلّ فرع باريس الذي فاز بمقاعده اليسار، وقرر طرد 12 مناضلا وسحب عضويتهم من المنظمة، لكن ذلك لم يطل إذ قرر المؤتمر 12 المنعقد بالمنستير رفع العقوبات بفعل الضغط القاعدي (كتلة معارضة ضمّت 24 نائبا) علما وأن تقنين تبعية الاتحاد للسلطة وحزبها في مؤتمر الكاف جاء بعد منع كل عمل سياسي منظم منذ بداية العام (بعد المحاولة الانقلابية للأزهر الشرايطي ورفاقه سنة 1962). كما ساهمت بعض المعطيات الأخرى في فرض الهيمنة الدستورية على الاتحاد دون مقاومة كبيرة وهي أساسا حداثة عهد الجامعة التونسية ومحدودية عدد الطلبة والكليات بها، كما أن تجذّر المعارضة الطلابية لم يكن بالشكل الذي بدأ يأخذه منذ اواسط الستينات، كما أن المنظمة الطلابية في تلك السنوات، وخاصة قيادتها، كانت هدفا مثاليا للعناصر الانتهازية التي تسعى إلى ضمان مواقعها في جهاز الدولة والحزب وفي اعلى مواقع السلطة وهو ما تمكّن منه كل الكتّاب العامين للاتحاد مثل محمد الصياح، الطاهر بلخوجة، أحمد بنّور، الهادي عطية، عبد الملك العريف، حامد القروي... على أن هذه "القيادات" لم تفعل سوى مزيد تكريس القطيعة بين القيادة الدستورية وطموحات القواعد الطلابية التي بدأ الوعي ينتشر في صفوفها، ويمكن الجزم أنه منذ 1965 بدأت حالة الغضب تجتاح الجامعة، ومن علامات هذا الغضب يمكن ذكر حدثين ساهما في إبراز استعداد الطلبة للنضال ضد السلطة، الأول هو مقاطعة المطعم الجامعي والإضراب احتجاجا على رداءة الأكلة، والثاني هو زيارة بورقيبة للشرق العربي مقدّما مبادرته المعروفة حول حل القضية الفلسطينية والتي تقتضي الاعتراف بالكيان الصهيوني والالتزام بقرار التقسيم لسنة 1947، وتكوين تكتل إقليمي للتعاون بعضوية الكيان الصهيوني. وقد خرجت الجماهير في كل مدن الشرق العربي للتنديد والتشهير بهذه المبادرة، وكردّ على ذلك نظّمت السلطة في تونس مسيرات لدعم خطة بورقيبة وقد قاطع أغلب الطلبة هذا الأمر (لكنهم لم ينظموا نشاطا مضادّا).
في الأطر القاعدية للاتحاد، واصل المناضلون النشطاء العمل دفاعا عن الممارسة الديمقراطية، كما تدخلوا بشجاعة في عديد الاجتماعات التي تنظمها القيادة ونقدوا السياسة الرجعية للنظام والممارسات اللاديمقراطية لطلبته خاصة في الانتخابات القاعدية والتي بفضلها حافظ "الطلبة الدساترة" على هيمنتهم إذ كان النظام الداخلي للاتحاد ينصّ على أن كل أعضاء الهيئة الإدارية (بين 20 و30 عضوا) يعتبرون آليا نوابا في المؤتمر، وكان هذا العدد الكبير لأعضاء الهيئة الإدارية يهدف إلى احتواء الصراعات الجهوية بين الدساترة وضمان الأغلبية في المؤتمرات لسدّ الباب أمام الطلبة المعارضين ليكونوا دائما أقلية، هذا فضلا عن شيوع التزوير والتدليس في الانتخابات وتجميد وطرد العناصر المناضلة من هياكل الاتحاد لأسباب مفتعلة مثل الجرّ للعنف والاستفزاز، كل هذا من أجل ضمان الأغلبية المريحة في كل المؤتمرات (إلى حدود المؤتمر 17) وبالتالي ضمان الهيمنة الكاملة على المنظمة. لذلك كانت أغلب المؤتمرات صورية هدفها تزكية قرارات صادرة من فوق، وتجاهل مشاغل الطلاب مثلما جرى في أواسط ديسمبر 1966 حين تولى عون بوليس تعنيف طالبين، فلم تحرّك قيادة الاتحاد ساكنا، لذلك خرجت مسيرة شارك فيها بين 1000 و1500 طالبا (الساعة 12 زوالا) نحو مقر وزارة الداخلية، وقد رفع المتظاهرون شعارات: من أجل الديمقراطية، يسقط الغستابو، يسقط القمع، وهو أول تحرك جماهيري للطلبة الديمقراطيين، وقد أفرز القمع الذي سلّطه البوليس على المتظاهرين مزيدا من الإصرار والمقاومة، إذ أعلن الطلبة الإضراب العام لمدة 3 أيام مما حدا بالسلطة إلى إغلاق الجامعة إلى حدود عطلة الشتاء، وفي خضمّ هذه الحركة النضالية كان دور قيادة الاتحاد الوشاية وإعداد "القوائم السوداء Listes Noires" هذا المصطلح الذي ظهر في تلك السنوات.
وفي السنة الجامعية الموالية، وعلى إثر عدوان جوان 1967 على مصر وسوريا ولبنان، عرفت الجامعة التونسية العديد من المظاهرات والتجمعات، وقد التحم الطلبة بالجماهير الشعبية رافعين شعارات: تسقط الامبريالية - تسقط إسرائيل - جونسون مجرم - قطع العلاقات مع أمريكـا وبريطانيـا. وقد تظاهرت الجمـاهير الغاضبة أمام سفارتي الولايات المتحدة وبريطانيا والمركز الثقافي الانجليزي، وقد قام في تلك الأثناء طلبة دساترة ومخبرين وعناصر مشبوهة بتحويل وجهة بعض المتظاهرين إلى مقرات سكنى ومؤسسات دينية يهودية لإعطاء التحركات بعدا عنصريا وطائفيا (معاديا لليهود)، علما ان المناضلين التقدميين الذين قادوا المظاهرات أكدوا مواقفهم المعادية للامبريالية والصهيونية التي لا علاقة لها بمعاداة السامية والطائفية التي حاول الدساترة المخرّبين لنضالات الجماهير توجيه المتظاهرين إليها، وقد واجهت السلطة هذه التحركات بالقمع والمحاكمات إذ أصدرت حكما ضد الطالب المناضل محمد بن جنات (منظمة آفاق) الذي عرف بحيويته ونشاطه الدؤوب المعادي للامبريالية بـ20 سنة أشغال شاقة متهمة إياه بـ"خلع وسرقة مغازات" و"ضلوعه في الحرائق في أحياء اليهود" وقد كانت هذه المحاكمة اعتداءا جديدا على الكرامة الوطنية والعزة القومية التي أهانتها الأنظمة والجيوش العربية، وأكدت ارتباط النظام العميل بالامبريالية وخاصة الأمريكية (النظام التونسي العميل برر التدخل الأمريكي في الفيتنام...).
3- تصاعد جذوة النضال الديمقراطي والمعادي للامبريالية:
سنقف هنا عند أهم المحطات النضالية بداية من السنة الجامعية 67/1968 إلى حدود انقلاب قربة 1971.
* السنة الجامعية 67-1968:
القيادة الدستورية تزداد عزلة بوقوفها ضد لائحة تضامن مع بن جنّات قدمت في المؤتمر 15 للاتحاد المنعقد بقابس في صائفة 1967 (40 صوت ضد 27 مع 24 محتفظ)، وقد شغلت قضية بن جنّات الجماهير الطلابية، وقد تمحورت كل الاجتماعات العامة والتحركات حولها. لقد تحولت هذه القضية إلى محور فرز بين القوى السياسية (طلبة السلطة والطلبة الديمقراطيون) مما ساعد المعارضة على الفوز في العديد من لجان الفروع.
* فيفري 1968:
إضراب عامّ وتجمع طلابي كبير بكلية الآداب 9 أفريل بمناسبة زيارة نائب الرئيس الأمريكي همفري، وزيارة العميل الفييتنامي Tranphon Do.
* مارس 1968:
حملة تعبوية كبيرة بمناسبة قرب محاكمة المناضل بن جنات،تم إعلان الاضراب العام منذ بداية الشهر. البوليس وأساسا فرق BOP وDST تحاصر الكليات وشوارع العاصمة. في اليوم الثالث للاضراب هاجمت فرق الميليشيات بكل وحشية اجتماعا عامّا بكلية الطب مما خلّف عديد الجرحى والموقوفين من الطلبة والأساتذة (منهم أستاذ الجراحة الدكتور زهير السافي الذي حمل مع أساتذة آخرين إلى فيلا خارج مناطق العمران في مكان مجهول أين تمّ تعنيفهم وتعذيبهم)، وقد تواصل هذا الإضراب العامّ طيلة عشرة أيام، على أن الحركة الاحتجاجية تواصلت إلى نهاية سنة 1968 حيث انتظمت محاكمة أخرى في سبتمبر 1968 (مناضلي آفاق) أمام "محكمة أمن الدولة" المحدثة خصّيصا، وقد وصلت الأحكام إلى حدود 16 سنة سجنا و2000 دينار خطية مالية، لكن هذا القمع لم يوقف النضال الطلابي بل زاده تجذّرا وجرأة، علما أن سنة 1968 كانت سنة "ربيع الحركة الطلابية" في العالم حيث جرت انتفاضات طلابية في معظم البلدان الرأسمالية.
* سنة 1969:
مثلت سنة 1969 سنة الأزمة بالنسبة للدولة والحزب الحاكم، فبعد تطبيق سياسة "التعاضد" ذات الطابع البورجوازي البيروقراطي المدعومة من الامبريالية الأمريكية، شهدت البلاد مصادمات عنيفة بين الشعب الكادح ودولة البوليس، اهمها أحداث الوردانين التي أفضت إلى سقوط 12 فلاّحا كما سجلت حالات مجاعة في بعض المناطق، وخوفا من تطور الحركة الشعبية وتجذرها تخلى بورقيبة عن أحمد بن صالح في سبتمبر 1969 وحاكمه في أفريل 1970 بتهمة الخيانة العظمى، وقد انعكست هذه الأزمة على هياكل الدولة والحزب وعلى قيادة الاتحاد التي كان أغلبها مواليا لبن صالح مما سيزيد الوضعية داخل المنظمة الطلابية تأزما. في مقـابل أزمة السلطة عرفت تحركات الجماهير الطلابية مزيدا من التجذر والاتساع، ففي نهاية السنة الجامعية 68/69 جدد الطلبة تحركاتهم من أجل إطلاق سراح الطلبة المساجين.
وفي أكتوبر 1969 تجندت الحركة الطلابية للنضال خاصة في كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية بتونس بعد سن القانون الجديد الذي يحدد الترسيمات في المرحلة الأولى بـ4 ترسيمات وهو ما يحرم آليا 1000 طالب بهاته الكلية (فضلا عن 100.000 مرفوتين من الابتدائي والثانوي) من حقهم في مواصلة الدراسة. وقد أفرزت هذه النضالات كثافة الاجتماعات العامة والاضرابات، كما عرفت الهياكل القاعدية للاتحاد نشاطا ملموسا، كما نما النشاط السياسي المعارض انطلاقا من قاعات الدروس، وبدأ النشاط الثقافي الملتزم بالظهور.
* فيفري 1970:
الاضراب العامّ بالجامعة بمناسبة زيارة وزير الخارجية الأمريكي روجرز الذي جاء يعرض خطته "للسلام » على العواصم العربية (تشريك الأنظمة العميلة في تصفية المقاومة الوطنية الفلسطينية).
تجمّع عامّ ببورصة الشغل ومظاهرة بالشارع معادية للامبريالية مما حدا بروجرز إلى إلغاء زيارته المبرمجة لكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية المنشأة بدعم أمريكي وقد خلفت هذه التحركات إيقاف عديد الطلبة وإغلاق أبواب الجامعة.
* أفريل 1970:
محاكمة بن صالح بتهمة الخيانة العظمى بأمر من بورقيبة المريض بسويسرا. كاتب عام الاتحاد عيسى البكوش (موالٍ لبن صالح) يُقال بتعلّة "عدم الكفاءة" ويعيّن في مكانه حبيب الشغال دون انتخاب.
في صائفة 1970 لم ينعقد المؤتمر 18 بحكم قرار من المؤتمر 17 بإنجاز المؤتمر كل سنتين، وعوض ذلك تدعو القيادة لندوة وطنية في إطار ما سمّي آنذاك "استشارة وطنية" أقصيت منها العناصر الماركسية والبعثية من طرف وزير الداخلية أحمد المستيري، لكن الندوة لم تعقد في النهاية.
* أكتوبر 1970:
إضراب تضامني مع إضراب عمال سيدي فتح الله الذين تعرضوا لهجوم بوليسي سافر (1000 مضرب)، الطلبة يقومون بحملة تبرعات مالية سريّة من أجل العمال وعائلاتهم. في نفس الفترة يعرف النضال ضد الانتقاء أعلى درجاته بعد نتائج جوان وسبتمبر 1970 التي كانت كارثية، وقد تواصلت الاضرابات طلية الثلاثي الأول من سنة 70/1971 من أجل الحق في ترسيم خامس أو الحق في إعادة التوجيه.
* فيفري 1971:
طلبة كلية الحقوق والعلوم الاقتصادية بتونس يعلنون الاضراب ضد الإجراء الجديد الذي جاء ليكرس الانتقاء، هذا الاجراء ينصّ على اجتياز امتحان جزئي (partiel) في شهر فيفري، وقد قوطع هذا الامتحان من طرف أكثر من 90% من الطلبة مما مكنهم من إسقاطه، هذا وقد خصص بقية العام للاستعداد للمؤتمر 18 المقرر في الصائفة، المعارضة تشارك بكثافة في الانتخابات القاعدية وتتفق على برامج عمل، كما تم إحضار مشاريع اللوائح مسبقا ونوقش بعضها في الاجتماعات العامة مع القواعد الطلابية.
4- انقلاب قربة 1971:
انعقد المؤتمر 18 في أوت 1971 بقربة، ورغم كل العوائق فازت المعارضة بأغلبية نيابات المؤتمر (105 من أصل 180) مما حدا بالدساترة للخروج "بأقلّ الأضرار" بأن اقترحوا فكرة تكوين قيادة "ممثلة لكل التيارات السياسية" على النحو الآتي: ثلث المقاعد للدساترة، ثلث للمستقلين، وثلث للشيوعيين. وهو ما رفضته الأغلبية الديمقراطية لأنها ترفض أية مساومة من وراء ظهر القواعد الطلابية وعلى حساب مصالحها وطموحاتها (علما أن طلبة الحزب« الشيوعي" وافقوا على هذا المقترح) وقد ركّز الديمقراطيون عملهم (طيلة 5 أيام) من أجل تقنين استقلالية الاتحاد عن السلطة وحزبها وتحوير النظام الداخلي في اتجاه الحد من صلاحيات المكتب التنفيذي وضمان مراقبته من طرف القواعد (هياكل ومنخرطين).
في تلك الأثناء، ولمّا يئس الدساترة من إمكانية أية "تسوية" مع الأغلبية من أجل ضمان مقاعد في القيادة الجديدة، استقال رئيس المؤتمر بفعل الضغط لتُحاصر قاعة المؤتمر وتعلن الأقلية الفاشية إيقاف الأشغال، في الوقت نفسه كان البوليس يوقف المؤتمرين الديمقراطيين ويعنّفهم، ليتم تنصيب هيئة إدارية دستورية (علما أن المؤتمرين لم يعرضوا بعد اللوائح للمصادقة عليها).
إثر هذا الانقلاب مباشرة تولت الأغلبية صياغة عريضة تعرضت لما حدث وفي الإبّان شُكّلت لجنة إعلام أعدت تقريرا مفصلا حول الانقلاب الدستوري تم توزيعه على الطلبة في السنة الجامعية الموالية 71/1972، وقد اتسمت خاصة الفترة من أكتوبر إلى ديسمبر 1971 بعمل جبّار قادته "اللجنة الاعلامية" التي تحولت إلى ممثل حقيقي للطلاب ومنظم لتحركاتهم (اضرابات، اجتماعات عامة...)، وعلى هذا الأساس لم يقع شراء أي انخراط من الاتحاد ولم يقع انتخاب أي هيكل تحت إشرافها، وبالمقابل انتظم الطلاب مؤقتا حول هيئات المدارج وأمضوا عريضة تطالب باستقالة الهيئة الإدارية المنصّبة وبعقد مؤتمر استثنائي، ولم يخرج عن هذا الاجتماع سوى طلبة الحزب "الشيوعي" التونسي الذين نادوا بقبول التنظم تحت قيادة الهيئة المنصّبة وقد عُزل هذا الموقف اليميني الاستسلامي واعتبرت هذه الأقلية الانتهازية متعاونة مع حزب الدستور.
II- حركة فيفري 1972 المجيدة:
مع أواخر جانفي 1972، كانت التعبئة الطلابية في ذروتها، لكن حدثين عجّلا بانفجار الأوضاع وانطلاق الحركة المجيدة، الأول هو طرد المناضل بن شهيدة من كلية العلوم بتونس بعد مثوله أمام مجلس التأديب بسبب نشاطه الإعلامي المكثف بعد انقلاب قربة، والثاني هو البدء في محاكمة المناضلين أحمد بن عثمان وزوجته (منظمة العامل التونسي) بتهمة "التآمر على أمن الدولة الداخلي" وكان المناضل بن عثمان من نشطاء الحركة الطلابية (كلية 9 أفريل) وكان قد أوقف سنة 1968 مع رفاقه من منظمة "آفاق" وحوكم أمام "محكمة أمن الدولة" ثم أطلق سراحه مع رفاقه عام 1970.
وقد دفع هذان الحدثان أغلبية الطلبة إلى إعلان الاضراب العام الوطني يومي 31 جانفي و1 فيفري 1972، ويوم محاكمة أحمد بن عثمان تظاهر الطلاب مجتازين شارع باب بنات وساحة باب سويقة حتى شارع بورقيبة. ويم 2 فيفري 1972 تجمع بكلية الحقوق حوالي 4000 طالب (من أصل 10 آلاف طالب مرسّمين بالجامعة التونسية) للتنديد بالقمع والمحاكمات والمطالبة بانعقاد المؤتمر 18 الخارق للعادة.
وبالفعل انطلقت أشغال المؤتمر يوم 3 فيفري الذي شارك فيه آلاف الطلاب الذين نشطوا في صلب 5 لجان: اللجنة السياسية العامة، لجنة الشؤون الداخلية، لجنة الشؤون النقابية، لجنة الشؤون الثقافية ولجنة الصحافة والإعلام، وقد شارك في بعض اللجان (السياسية العامة) أكثر من ألف طالب، على أنه كالعادة لم يخرج عن هذا الاجماع الطلابي الجماهيري إلا طلبة الحزب التحريفي، جماعة "المساندة النقدية للسلطة" الذين اعتبروا الحركة "يسراوية" بل "مقادة من طرف الرجعية"!؟؟، وعلى أساس سلوكهم هذا عزلتهم الجماهير واعتبرتهم اعوانا للسلطة.
كانت شعارات الحركة تردد في الساحات وتكتب على الجدران، وهي شعارات واضحة تعكس تجذر الوعي في اوساط الشبيبة الطلابية، وهي الشعارات التالية:
- اتحاد عام لطلبة تونس مستقل، ديمقراطي، ممثل ومناضل.
- جامعة شعبية، تعليم ديمقراطي، ثقافة وطنية.
- لا مجاهد أكبر إلا الشعب.
- يسقط القمع.
- الحرية للمساجين السياسيين.
- لا ديمقراطية بدون حرية سياسية للطبقة العاملة.
- الديمقراطية كالخبز حق من حقوق الشعب.
- طلبة وتلامذة وعمال وفلاحون كلهم متحدون.
- يسقط الدساترة وخدمهم.
- بعتم تونس بالفارينة (...)
وهكذا، فقد تعلقت الشعارات المرفوعة باستقلالية المنظمة الطلابية وبتمثيليتها وبرفض القمع وخنق الحريات النقابية والسياسية، وبالتوجهات اللاشعبية واللاديمقراطية للسلطة في المجال التعليمي والثقافي، وبتبعية النظام للامبريالية عامة والأمريكية خاصة.
وقد رافق فرض انجاز المؤتمر العديد من الاجتماعات العامة الاعلامية بكلية الحقوق وباقي الكليات، كما نزل الطلبة إلى الشوارع لإعلام المواطنين بمطالبهم، كما ربط الطلاب الصلة بالحركة التلمذية التي كانت بدورها تعاني من سياسة الانتقاء وصعوبة الظروف المادية والبيداغوجية ووطأة القمع الإداري، لذلك سرعان ما التحقت الحركة التلمذية بالحركة النضالية العارمة للحركة الطلابية وأعلنت الإضراب يومي 2 و3 فيفري ضد سياسة الانتقاء وضد النظام البوليسي داخل مؤسسات التعليم، وقد بدأت الحركة الاضرابية بمعهد الفتيات (نهج الباشا) ومعهد نهج روسيا للفتيات والمعهد الصادقي والمعهد الفني بتونس، ثم امتدت إلى معاهد قرطاج وأريانة الجديدة وباب الخضراء والمعهد العلوي ثم إلى عمق البلاد بالكاف وطبرقة وسوسة ومنزل بورقيبة وصفاقس وقفصة والقصرين...، وقد ردد التلاميذ شعارات "تسقط الحكومة، يسقط بورقيبة، يحيا الشعب" و"تقرا ولاّ ما تقراش المستقبل ما ثمّاش" كما تصدّوا بشجاعة لوحشية البوليس ورشقوه بالحجارة وأحرقوا سياراته.
وأمام اتساع الحركة دفع النظام بعصاباته الفاشية (بوليس ومليشيات الحزب) ضد الطلبة والتلاميذ وهو ما تمّ خاصة يوم 5 فيفري حين تدخلت فرق "البوب"والبوليس السياسي لإيقاف أشغال المؤتمر 18 خ.ع وتفريق حوالي 6 آلاف طالب كانوا مجتمعين بالكلية يواكبون أشغال المؤتمر في إطار هجوم قمعي سافر (إغماءات، جرحى...) وقد كان تضامن سكان الأحياء الشعبية المجاورة (الجبل الأحمر، رأس الطابية...) مع الطلبة كبيرا إذ فتحوا أبواب منازلهم لحمايتهم، أما في صفاقس فقد تدخل السكان بين قوات القمع والتلاميذ مساندين هؤلاء، وخلال هذه المصادمات في العاصمة وخارجها تم إيقاف حوالي 900 طالبا وتلميذا كما تمّ جرح العديد وسُجّلت حالتا وفاة. وللحيلولة دون اتساع الحركة قررت السلطة غلق الجامعة وبعض المعاهد إلى حدود أفريل 1972، كما روجت وسائل الإعـلام الرسمية وغير الرسمية (حلقات الاسلاميين) عديد الدعاوي لتشويه الحركة وتأليب الرأي العام الشعبي ضدها وذلك من قبيل أن الحركة تطالب بالحرية الجنسية.
وبالتوازي مع نضالات الطلاب في تونس خاض الطلبة التونسيون بالخارج نضالات مساندة لرفاقهم، ففي باريس تم عزل لجنة فرع الاتحاد التي تسيطر عليها عناصر انتهازية متواطئة مع السلطة، وأعلنوا مساندتهم لنضالات الحركة في تونس وتبنّوا مطالبها وشعاراتها، كما احتلّوا "دار تونس" بالحيّ الطلابي العالمي بباريس، وقد هاجم البوليس الفرنسي الطلبة واعتقل 13 منهم، كما عزل الطلاب "لجنة المقيمين بدار تونس" التي كانت مكونة من عناصر دستورية فاشية وعوّضوها بلجنة ممثلة، كما أعلن الطلبة بباريس تكوين "لجنة عمل ونضال" كهيكل نقابي طلابي مؤقت لمساندة الحركة في تونس وتأطير النشاط الطلابي هناك، وقد بعثت بغرنوبل (فرنسا) وبروكسال (بلجيكا) لجان مماثلة.
أما في تونس فقد تواصل إغلاق الجامعة إلى أواسط أفريل 1972، أما الهيئة الإدارية المنصّبة فقد تأكدت عزلتها الكاملة، كما فشلت محاولات "تشريعهم" من قبل الطلبة التحريفيين الانتهازيين الذين عقدوا مؤتمر إطاراتهم بلوزان (سويسرا) خلال عطلة الربيع حيث استدعوا الهيئة المنصّبة وأعضاء لجنة فرع باريس المعزولة، وقد كرّس هذا المؤتمر قطيعتهم النهائية مع الحركة الطلابية التي لفظتهم إلى الأبد.
* حركة فيفري 1972 أو المنعرج الحاسم في وعي الحركة الطلابية وممارستها
تكمن أهمية حركة فيفري المجيدة في كونها شكّلت منعرجا حاسما في تاريخ الحركة الطلابية وفي وعي الطلبة وممارستهم النضالية. لقد رسمت حركة فيفري للحركة هوّيتها النضالية الحقيقية وحددت لها موقعها بشكل واضح وجليّ في الصراع الطبقي الجاري ببلادنا، وفي الصراعات الوطنية والاجتماعية على الساحة العربية والعالمية، كما كرّست حركة فيفري المجيدة قطيعة الحركة الطلابية مع عدوّها الطبقي: نظام الحزب الدستوري الفاشي والعميل، فرفضت قمعه للحريات وتدجينة للمنظمات التي كـان يعتبرها مجرد "خلايا تابعة للحزب الدستوري"، كمـا رفعت في وجهه شعار "اتحاد عام لطلبة تونس مستقل وممثل ومناضل" وكان ذلك أول شرخ يحدث في هيمنة حزب الدستور على المنظمات المهنية والنقابية، كما رفع الطلاب شعار "جامعة شعبية، تعليم ديمقراطي، ثقافة وطنية" العاكس لموقف الطلاب من التعليم (دوره، ووظيفته ومضمونه)، كما طالبوا بإلزامية ومجانية وديمقراطية التعليم وبضرورة فتح الجامعة (وكل مؤسسات التعليم) أمام كل أبناء وبنات الشعب ووضع حد لسياسة الانتقاء، كما طالبوا بالمحتوى الوطني، العقلاني والتقدمي لبرامج التعليم وذلك من خلال رفض الثنائي الرجعي الذي تقوم عليه سياسة السلطة في التعليم والثقافة... وهو ثنائي "الأصالة والتفتح" الهادف لإعادة انتاج ثقافة تقليدية رجعية واستعارة ثقافة امبريالية استهلاكية، وتشكل هذه الثقافة التعبيرة الطبقية للتحالف البورجوازي الامبريالي المسيطر على بلادنا. كما حددت حركة فيفري من خلال شعار "الحركة الطلابية جزء لا يتجزّأ من الحركة الشعبية" موقع الحركة الطلابية بشكل واضح وواع إلى جانب الشعب ضد الرجعية والفاشية وكل اختياراتها اللاوطنية واللاشعبية واللاديمقراطية، كما أكدت حركة فيفري الجوهر الوطني المعادي للامبريالية والصهيونية والرجعية للحركة الطلابية التونسية، وبالتالي انحيازها المبدئي واللامشروط لكل قضايا التحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي، منحازة للقضية الفلسطينية ونضال الشعوب العربية من أجل التحرر من نير الاستعمار الصهيوني والهيمنة الامبريالية وحكم الأقليات الرجعية الفاسدة والدكتاتورية، ومنحازة إلى شعوب العالم قاطبة في نضالها التحرري ضد رأس المال والامبريالية وكل أشكال الاستعمار والميز العنصري. إن هذا التوجه التقدمي الواضح يجعل الحركة الطلابية على طرف نقيض مع الدكتاتورية الدستورية المعادية لطموحات الشعب التونسي في التحرر والانعتاق، كذلك ساهمت الحركة في فضح زمرة الانتهازيين وكشف العناصر الاصلاحية اليمينية وأساسا طلبة "الحزب الشيوعي" التي بعد أن دعت "للتعاون" مع العصابة الدستورية المنصّبة على رأس المنظمة الطلابية وقاموا ببيع بطاقات الهيئة الإدارية المزعومة، نددت بحركة فيفري المجيدة واعتبرتها "يسراوية متطرفة، مغامرية وغير واقعية".
III- برنامج 1973:
بعد قمع الحركة الطلابية بالحديد والنار في فيفري 1972، اضطرت السلطة للتراجع، فأطلقت سراح أغلب الموقوفين في مارس 1972 وفتحت ابواب الجامعة في منتصف شهر أفريل 1972 ليواصل الطلبة نضالهم رافضين الانقلاب والعصابة الدستورية المنبثقة عنه ومتمسكين بالمؤتمر 18 خ.ع وبالاتحاد مستقل وديمقراطي وممثل، ومطالبين بإطلاق سراح بقية الموقوفين دون قيد أو شرط مما أجبر السلطة مجددا على التراجع أمام الإرادة الفولاذية للجماهير الطلابية، فتم إطلاق سراح بقية الموقوفين في سبتمبر 1972 واستقالت الهيئة الإدارية المنصّبة يوم 29 ديسمبر 1972 وإعلان ذلك رسميا على صفحات جريدة "الصباح" يوم 30 ديسمبر. مباشرة إثر ذلك وتحديدا خلال شهر جانفي 1973 تقدمت الجماهير الطلابية بمشروع "لحلّ أزمة التمثيل النقابي" أو ما عرف بمشروع 1973، وقد احتوى هذا المشروع على قسمين: الأول يعدد مميزات الوضع النقابي في الفترة الفاصلة بين انقلاب قربة 71 وجانفي 1973 ويمكن حوصلة هذه المميزات في أن المؤتمر 18 لم ينه أشغاله وأن أقلية دستورية انقلبت عليه، وأن أغلبية المؤتمرين والجماهير الطلابية رفضت هذا المؤتمر /الانقلاب، وأن الهيئة الإدارية المنقلبة استقالت وأن النظام الداخلي للاتحاد لم يتعرض لهذه الحالة، وأن الطلبة متمسكون بالاتحاد وهياكله ويقرون بالوعي الجديد الحاصل لديهم، فالحالة إذن استثنائية تتطلب حلاّ استثنائيا وهو المؤتمر الاستثنائي الديمقراطي. أما القسم الثاني فيقدم مقترحا عمليّا لحل أزمة التمثيل النقابي فيقترح انتخاب هياكل نقابية مؤقتة (هيئات فروع مؤقتة، مكاتب فيدرالية مؤقتة، لجنة جامعية مؤقتة) وتكون اللجنة الجامعية المؤقتة الناطق الرسمي والوحيد باسم الاتحاد إلى حد انجاز المؤتمر الاستثنائي الديمقراطي، وتكون مهمتها الأساسية إعداد هذا المؤتمر، هذا وقد حدد المشروع المبادئ والأسس الديمقراطية التي سيتمّ على قاعدتها انتخاب هذه الهياكل وهي: حرية الترشح والانتخاب، تمثيلية الطلبة في الهياكل النقابية المؤقتة حسب عددهم في الكليات والمعاهد العليا، انتخابات ديمقراطية من الأسفل إلى الأعلى بصورة مباشرة وعلنية، حق الطلبة في سحب الثقة من أي عضو في أي هيكل كلّما حـاد عن المبادئ والأسس التي انتخب على أساسها.
إن هذه المبادئ وخاصة مراقبة القاعدة للقيادة، تعتبر قمة ما وصلت إليه الديمقراطية في الاتحاد وقد مورست فعلا لما دخل المشروع حيّز التنفيذ، وهو ما يعكس البون الشاسع بين السلوك الديمقراطي للأطراف التقدمية وسلوك الدساترة القائم أساسا على التنصيب والتزوير والهيمنة والانقلاب. وقد وافق وزير التربية سيء الذكر محمد مزالي آنذاك في 14 فيفري 1973 على هذا المشروع، وبعث بمنشور لعمداء الكليات يطلب منهم السماح بتنظيم انتخابات الهياكل النقابية المؤقتة، وفعلا تمت هذه الانتخابات ومثلت انتصارا جديدا للجماهير الطلابية الصامدة وهزيمة نكراء للمنقلبين والمتواطئين معهم، على أن هذا الانتصار لم يكن طلابيا فقط، بل هو انتصار للحركة الديمقراطية التقدمية بأسرها في مواجهتها للدكتاتورية البورقيبية.
إذن تسلّحت الجماهير الطلابية بأطر تنظيمية جديدة استعدادا لإنجاز المؤتمر 18 خ.ع، لكن السلطة الفاشية وبعد اعترافها بالهياكل في البداية، تراجعت وشنّت حملة قمعية على الهياكل ومناضليها إذ عمد مجلس التأديب بكلية الحقوق في شهر أفريل 1973 إلى تسليط عقوبات تعسفية على عدد من أعضاء الهياكل النقابية المؤقتة، لهذا دخل الطلاب في إضراب عام طيلة شهر أفريل وإضراب جوع في ماي 1973 احتجاجا على طرد مناضلي الهياكل من الدراسة وعلى القمع الذي يأخذ وتيرة تصاعدية، وقد شهدت تلك الفترة إيجاد فرق جديدة تابعة للبوليس السياسي وأصبحت محاصرة الكليات يومية وترهيب الطلبة في كلّياتهم وأحيائهم الجامعية أصبح ممارسة يومية خاصة عندما هبّت الحركة الطلابية وهياكلها النقابية المؤقتة إلى مساندة نضالات الطبقة العاملة وخاصة عمال شركة النقل الذين وبعد إضرابهم في مارس 1972 من أجل تحسين أوضاعهم المهنيّة والمعيشية، أعادوا الإضراب في 2 ماي 1973، حيث أضرب 3000 عاملا طيلة 15 يوما (من 2 إلى 17 ماي 1973)، وقد كانت مساندة الطلبة مباشرة وعينيّة وهو ما خلق انصهارا ولُحمة بين نضال العمال والطلبة ضد اختيارات السلطة وضد تدجينها للمنظمات النقابية الجماهيرية، إذ أن اتحاد الشغل كـان بدوره يعاني من هيمنة حزب الدستور وإلحـاقه به واعتبـار كل الأطر النقابية "خلايا تابعة للحزب"، في هذا الإطار نظم الطلبة بقيادة الهياكل النقابية المؤقتة والتيارات الثورية مسيرة شارك فيها أكثر من 4000 شخصا يوم 4 ماي 1973، حيث التحمت الحركة الطلابية بالعاطلين عن العمل والعمال. وقد توجهت المسيرة إلى المضربين لتؤكد وحدة العمال والطلبة لمواجهة العدوّ الطبقي المشترك، وفي يوم 5 ماي اندلعت عديد الاضرابات في عديد المعامل والمعاهد الثانوية في جهات البلاد، أما ردّ فعل السلطة فقد كان كالعادة: القمع، حيث سُجّلت حالتا وفاة، وحوالي 250 جريحا وقرابة 150 موقوفا أطلق سراحهم يوم 7 ماي ما عدا اعضاء اللجنة الجامعية المؤقتة مما حدا بالطلبة إلى الدخول في إضراب جوع كما ذكرنا. وقد واصلت السلطة نهجها القمعي مما تسبب في حركة احتجاجية عارمة في بداية السنة الجامعية 73/1974، فبين أكتوبر ونوفمبر 1973 تعرّض المئات من الطلبة للمحاكمات السياسية والتجنيد الإجباري، وقد كانت السنة الجامعية 1974 سنة المحاكمات السياسية بامتياز. وفيما يتعلّق بالهياكل النقابية المؤقتة، فإنها بعد الإعتراف بها في مرحلة أولى، تراجعت السلطة رغم حرص مناضلي الهياكل على الحوار والتفاوض ووضع الاتحاد في سياقه العادي كمنظمة نقابية مناضلة، لكن منطق السلطة آخر، فهي لا تريد نقابات خارجة عن وصايتها، وهي وضعية الاتحاد الذي ثار ضد الهيمنة والتدجين ودشن معركة النضال من أجل استقلالية المنظمات واحترام إرادة منظوريها وهو ما رفضته السلطة. لذلك بقي الاتحاد في وضعية "اللاقانونية" حتى إنجاز مؤتمره 18 خ.ع في سنة 1988. فكيف ناضلت الحركة الطلابية من رفض الإعتراف بالهياكل النقابية المؤقتة إلى حدود إنجاز المؤتمر 18 خ.ع؟
IV- الحركة الطلابية من برنامج الهياكل النقابية المؤقتة إلى إنجاز المؤتمر 18 خ.ع:
إذن، بعد أن اعترفت وزارة التربية بالهياكل النقابية المؤقتة المنتخبة من الجماهير الطلابية، تراجعت في الإعتراف بتلك الهياكل والتعامل معها، بل تصدّت لها بالقمع والمحاكمات ومجالس التأديب والتجنيد الإجبـاري، وقد تكرس هذا التوجه أكثر عندما التحمت الحركة الطلابية المناضلة بالطبقة العاملة فكانت إيقافات ماي 1973 التي شملت حتى أعضاء اللجنة الجامعية المؤقتة، وقد تواصل نفس النهج في بداية السنة الجامعية 73/1974 إذ تمّ في أكتوبر 1973 تجنيد 600 طالبا، وفي نوفمبر تمّ إيقاف 600 شخصا أغلبهم من الطلبة والمثقفين اليساريين (العامل التونسي، الشعلة...) وذلك بهدف إجهاض الحركة النضالية الصاعدة من كل فئات الشعب وهو ما أشار إليه بورقيبة مباشرة في مجموعة من الخطب في شهر اوت 1973 عندما أعلن أن معارضي نظامه في الداخل والخارج لا بدّ ان يكفّوا عن انشطتهم "ولهم فرصة أخيرة حتى نهاية العام"، وفي هذا الإطار حاولت السلطة تنظيم الطلبة في أطر بديلة عن الهياكل النقابية المؤقتة مثل الدعوة لـ"أيام ثقافية" تابعة لديوان الخدمات الجامعية، كما سعت إلى إحياء مشروع مزالي بتنظيم الطلبة في "لجان المدرّجات" و"لجان الأحياء" ذات الطابع الإداري الصرف، وقد فهم الطلاب مرامي هذا المشروع وهو عزل الأجزاء الجامعية بعضها عن بعض وتسهيل عمليات مراقبتها واحتوائها من طرف حزب الدستور وهو ما تأكد بدعوة الهيئة الإدارية المنصّبة في انقلاب قربة التي نظمت انتخابات "هيئات الفروع" خارج الكليات، وقد كانت مقاطعة الطلبة ورفضهم لدعوة الدساترة لتدجين الجامعة واضحة وذلك عبر الدعوة إلى انتخاب ممثليهم في الهياكل النقابية المؤقتة وهو ما تمّ عامها بفروع الخارج، إلا أن المحاكمات السياسية ضربت موعدا آخر مع الجماهير الطلابية، وقد كانت سنة 1974 كما قلنا سنة المحاكمات بامتياز من حيث عددها وعدد المحالين عليها وخاصة محاكمتي 17 أفريل 1974 و20 أفريل 1974، وقد حوكم في الأولى 13 طالبا من أعضاء الهياكل النقابية وقد تراوحت الأحكام بين 4 و6 أشهر، وقد أوقف هؤلاء الطلبة يوم 8 مارس 1974 بمناسبة الإضراب العام. أما محاكمة 20 أفريل فقد أحيل فيها 27 طالبا أوقفوا في تحركات منددة بمحاكمة 17 أفريل وقد تراوحت الأحكام الصادرة عنها بين 3 أشهر وعاما سجنا، وفي يوم المحاكمة أوقف مرة أخرى قرابة الـ100 طالب وهو ما حدا بالحركة لإعلان الإضراب العامّ حتى بداية شهر ماي رغم تدخل البوليس ومحاصرته اليومية للكليات بواسطة الكلاب المدرّبة.
ولم تنته السنة إلا بإصدار قانون 7 ماي 1974 الذي أقرّ تواجد جهاز بوليسي (الفيجل) داخل الجامعة لمراقبة الطلبة وأنشطتهم داخل الأجزاء الجامعية والمبيتات.
في الصائفة نظّمت السلطة الفاشية محاكمة سياسية جديدة لمناضلي اليسار (العامل التونسي، الشعلة) أحيل بمقتضاها 202 مناضلا على المحاكمة فـي أوت 1974. إن هذه المحاكمة زادت الوضع في الجامعة احتقانا وحفّزت جموع الطلاب على رفع وتيرة النضال النقابي والديمقراطي، مع العلم أن بورقيبة كان قد أعلن نفسه في تلك الفترة رئيسا مدى الحياة، وقد برز إصرار الطلاب على مواصلة النضال خاصة بمناسبة الاضراب العام الذي شنه أساتذة التعليم الثانوي في 8 جانفي 1975 وهو أول إضراب في قطاع الوظيفة العمومية، وقد رفع الأساتذة مطالب تحسين المقدرة الشرائية وإعادة خمسة أساتذة للعمل حوكموا في أوت 1974 بأحكام مؤجلة التنفيذ (بين ثلاثة أشهر وعام) وقد لاقى إضراب الأساتذة مساندة كبيرة رغم حلّ مكتب النقابة من طرف البيروقراطية الدستورية المنصّبة على رأس الاتحاد العام التونسي للشغل، وقد كانت مساندة الطلبة كبيرة إذ أعلنوا إضرابات المساندة ونظّموا الاجتماعات العامة الحماسية لتأكيد المؤازرة. كما نظّم الطلبة تجمّعا كبيرا يوم 25 أفريل 1975 لمساندة نضال الشعوب الهندو-صينية ونضال الشعب الفلسطيني وكل الشعوب المناضلة من أجل التحرر والانعتاق وقد تم في هذا التجمع تأكيد الطبيعة اللاشعبية واللاديمقراطية للنظام الدستوري العميل وصنيعة الامبريالية.
في مقابل هذا، ومقابل الإرادة الطلابية المناضلة، نظمت الزمرة الدستورية المنقلبة في شهر أوت 1975 "المؤتمر 19" بقصر المؤتمرات بالمنستير، في الوقت الذي تصرّ فيه الجماهير الطلابية على إنجاز المؤتمر 18 خ.ع من أجل اتحاد مستقلّ ديمقراطي ممثّل ومناضل. في ذات الوقت كان الطلبة في باريس ينظّمون تجمعا للهياكل النقابية المؤقتة بالخارج يؤكدون فيه مساندتهم للحركة الطلابية الديمقراطية والمعادية للامبريالية، ولنضالات الشعب وقواه العاملة.
لقد زاد إمعان السلطة وطلبتها في نهج الإنقلاب والوصاية، تجذر وإصرار الحركة الطلابية على النضـال الجريء، فمنذ بـداية السنة الجـامعية 1975/1976 ازدادت التعبئة القاعدية ضد القيادة المنصّبة الجديدة للمؤتمر الصوري والمزعوم ("المؤتمر 19") وخلقت الجماهير فضلا عن الهياكل النقابية المؤقتة، أشكالا تنظيمية أخرى تمثل الطلبة وتدافع عن مشاغلهم المادية والمعنوية، مثل تشكيل لجنة تفاوض مع ديوان الخدمات الجامعية حول مشاكل السكن، الأكلة... التي انبثقت عن التجمع الطلابي الكبير المنعقد بالمبيت الجامعي راس الطابية يوم 9 ديسمبر 1975، كما تمّ تشكيل لجنة طلابية منبثقة عن اجتماع عامّ بكلية الآداب 9 أفريل يوم 10 ديسمبر 1975. وقد تكوّنت اللجنة من أعضاء الهياكل النقابية المؤقتة وعضو بالمجلس العلمي، لكن عميد الكليّة (محمد اليعلاوي) المعروف ببطشه وعدائه لكل نشاط طلابي تقدّمي رفض التعامل مع هذه اللجنة، فاحتل الطلبة مكتبه تنديدا بممارساته الفاشية حيث كثيرا ما وجد الطلبة عند دخولهم للكلية قائمات جديدة للمطرودين بسبب نشاطهم النقابي. وقد كان هذا العميد سيّء الذكر وراء محاكمة طالبين بتهمة « اقتحام مكتب العميد وتكسير صورة بورقيبة" وكان نصيبهما 4 سنوات سجنا في جانفي 1976، وقد تجمّع الطلبة يوم المحاكمة أمام "قصر العدالة" وتصادموا مع قوات القمع وكان ذلك بدعوة من الهياكل النقابية المؤقتة، على أنه قد حوكم من قبل وتحديدا يوم 17 ديسمبر 1975، 5 طلبة تراوحت الأحكام الصادرة ضدّهم بين عامين و4 أشهر و6 سنوات و8 أشهر سجنا، وقد شنّ الطلبة بالمناسبة إضرابا عن الدروس تواصل إلى يوم 18 ديسمبر كما عقدوا يوم 19 ديسمبر تجمّعا كبيرا للتنديد بالممارسات القمعية ولتواطئ العميد اليعلاوي والدور البوليسي للأساتذة الدساترة (دور الوشاية).
كما انبثق عن الاجتماع العام بكلية 9 أفريل، المنعقد يوم 5 جانفي 1976 (يوم العودة) تشكيل لجنة تفاوض مع العميد المذكور حول ما قام به خلال العطلة (بناء جدران داخل الكلية) وحول تواجد أعوان البوليس بصفة دائمة أمام الكلية (علما أن الفيجل باشر نشاطه بداية من هذه السنة) وقد رفض العميد كعادته التفاوض، وبعد مهلة بيومين تقرر الإضراب يوم 8 جانفي مما أسفر عن عديد الإيقافات، كما تم يوم 10 جانفي طرد 3 طلبة ويوم 12 جانفي تمّ منع الطلبة من دخول الكلية مما حدا بهم للانتقال لدار المعلمين العليـا وكلية العلوم لإعـلام بقية الطلبة وتنظيم المواجهة. وقد تقرر الدعوة لتجمّع طلابي يوم 13 جانفي بدار المعلمين كان نتيجته طرد 4 طلبة في اليوم ذاته، وعرفت المصادمات بين الطلبة وقوات القمع ذروتها يوم 14 جانفي حين تولّى البوليس تفريق الطلبة المجتمعين أمام المحكمة للتضامن مع الطلبة الموقوفين (طلبة كلية الآداب) فكان أن نظّم الطلبة المواجهة في مبيت باردو I للطالبات أين وجدوا العون من لدن متساكني الحيّ ليكبّدوا قوات القمع العديد من الخسائر (عديد الجرحى) وكانت النتيجة كالعادة إيقاف 14 طالبا حوكم 12 منهم من الغد، كان نصيب كل طالب منهم 3 سنوات و8 أشهر سجنا. كما عرف نفس اليوم مواجهات دامية في مبيت راس الطابية للذكور. وأعلن الطلبة يوم 15 جانفي الإضراب العامّ بكل الكليات حيث شهد هذا اليوم مواجهات دامية بين الطلبة وقوات القمع المدججة بالأسلحة والقنابل المسيلة للدموع والكلاب، كما استعان البوليس يوم 20 جانفي في كلية الآداب بالمليشيات التابعة "للشباب الدستوري"
و"الشبيبة البورقيبية" التي دخلت الكلية وعنّفت الطلبة مستعملة "المتراك" والسكاكين، وقد ساهم العميد سيّء الذكر شخصيّا في ملاحقة الطلبة وضربهم و"البصاق على وجوههم" وقد كانت نتيجة هذا الهجوم جرح 5 مناضلين وطرد العديد من الطلبة، كما تمّ افتكاك 154 بطاقة طالب. لكن إصرار الطلبة وجرأتهم في مواصلة النضال كانت دائما تُحبِط السلطة المراهنة على تركيع الحركة، فقد تقرر في التجمع الطلابي المنعقد بكلية الطب يوم 22 جانفي، مقاطعة الأكلة بكل المطاعم الجامعية والاضراب العامّ عن الدروس يوم 23 جانفي، كما نظم الطلبة مظاهرات بصفاقس (كلية الطبّ) احتجاجا على السياسة القمعية ومحاكمة الطلبة وقد أوقف البوليس كعادته عديد الطلبة. على أنه لا بدّ من ذكر أن كل هذه النضالات الطلابية تزامنت مع عديد النضالات العمالية إذ شهد شهر ديسمبر 75 اضرابات متتالية بمعامل مواد البناء بتونس، كما أضرب عمال شركة النقل من 5 إلى 8 جانفي 76 الذين تضامن معهم عمال "سورتراس" يوم 6 جانفي (إضراب نصف يوم)، كما شهدت نفس الفترة إضراب عمال (STM) وفي باجة أضرب عمال معمل السكر كما شهد شهر جانفي تجديد النقابات الجهوية للتعليم الثانوي التي لم يفز فيها أي مترشح دستوري.
أما في الخارج فقد انتظمت عديد التجمعات والندوات لإعلام الرأي العام العالمي بحقيقة الأوضاع في تونس والتنديد بالقمع الفاشي للنظام البورقيبي ومساندة نضالات الحركة الطلابية والشعبية.
1- رغم القمع، النضال يتواصل ويتجذّر:
إن الخيط الرابط بين كل المحطات النضالية سواء بالنسبة للجماهير الطلابية أو الجماهير الشعبية (الحركة النقابية..) هو ردّ فعل السلطة الذي اتسم دائما بالقمع والعنف والإرهاب وهو ما يؤكد الطبيعة الفاشية للنظام القائم الذي استند لضمان استمراره إلى اغتصاب الإرادة الشعبية وقمع كل ما هو خارج عن سيطرته وهو الحال مع الحركة الطلابية المتأهّبة دائما للنضال والتي كان نصيبها في كل مرة مزيدا من القمع والإيقافات والمحاكمات والطرد والتجنيد. فقد وصل عدد الموقوفين في بداية فيفري 1976 بمناسبة إحياء اللجنة الجامعية المؤقتة والهياكل النقابية المؤقتة للذكرى الرابعة لحركة فيفري 1972 المجيدة بين 350 و400 موقوفا، لكن ذلك لم يمنع القواعد العريضة من إحياء الذكرى، كما شن المساجين السياسيين إضراب جوع رمزي بالمناسبة (يوم 5 فيفري 1976)، وفي الأسابيع اللاحقة شنّ الطلبة بمساندة من الأساتذة معركة مفتوحة ضد "الفيجيل"، هذا الجسم /الطاعون الغريب عن منابر العلم والمعرفة والمكلّف بمهمة مراقبة الفضاء الطلابي وقمعه، وهو جهاز راهنت عليه السلطة الفاشية لإخماد الصوت الطلابي ومتّعته بكل الامتيازات إذ كانت جراية العون 80 دينارا في حين كان معدّل أجور العمال لا يتجاوز خمسين دينارا، وكان (ولازال) انتداب عناصر الفيجيل يتم على أساس العضلات المفتولة من العناصر المختصة وكان من بين عناصر الفيجيل المعروفة ببطشها في تلك السنوات بطل تونس في المصارعة (وزن ثقيل)!!!
يوم 3 ماي 1976 دعا الطلاب إلى تجمّع طلاّبي ضخم إحياء اليوم العالمي للشبيبة المناهضة للامبريالية (26 أفريل من كل سنة) وقد تدخلت قوات القمع بعنف لتفريق الطلبة.
وفي 5 ماي 1976 وبدعوة من الهياكل النقابية المؤقتة في المبيت الجامعي باردوI، تحوّل اجتماع عامّ إلى مصادمات عنيفة مع قوّات الفيجيل كان نتيجتها قرابة 30 جريحا وعشرات الموقوفين تمّت محاكمة 10 منهم ووصلت الأحكام إلى 4 أشهر سجنا (5 طلبة) وأطلق سراح الخمسة الباقين، وفي إطار نفس المعركة دعت الهياكل إلى إضراب عامّ تواصل إلى 12 ماي من أجل إخراج الفيجيل من الجامعة وإسقاط قانون 7 ماي 1974. وكان نصيب الطلبة كالعادة مزيدا من القهر إذ تمّ طرد 80 طالبا طردا نهائيا من الجامعة بسبب نشاطهم النقابي المكثّف، وكان لعملية الطرد هذه تاثيرا سلبيّا على الهياكل النقابية المؤقتة التي أُفرغت من مناضليها خاصة قياداتها النوعية والصدامية وهو ما طرح ضرورة تعويض هؤلاء بمناضلين جدد، لذلك دعت اللجنة الجامعة المؤقتة هياكلها القاعدية لإجراء انتخابات، لكن ظروف القمع وعدم اعتراف السلطة بالهياكل فرض على الحركة الطلابية إجراء الانتخابات في السريّة (ماي/جوان 1976)، وهو ما يؤكد بما لا جدال فيه الممارسة الديمقراطية الحقيقية والرجوع إلى القاعدة في كل مرة رغم استثنائية الظروف، وهو ما يؤكد كذلك البون الشاسع بين الديمقراطية كما تفهمها وتمارسها الجماهير و"ديمقراطية" السلطة الدكتاتورية القائمة على التزوير والتزييف والاغتصاب، على أنه لا بدّ هنا من ذكر الأدوار القذرة التي يصرّ الطلبة التحريفيون على لعبها، فقد دعوْا آنذاك "لسحب الثقة" من اللجنة الجامعية المؤقتة I" وبعثوا لجنة إعلامية بالخارج لمواصلة نفس الأدوار التخريبية والتشكيكية وهو ما رفضته الجماهير التي لفظتهم منذ فيفري 1972 واندثرت محاولاتهم بنفس السرعة التي ظهرت بها.
وقد تزامنت نضالات الطلاب مع نضالات عمالية كبيرة طيلة صائفة 1976 وإلى حدود نهاية ذلك العام وأهمّها إضراب عمال التعاضدية الجهوية للزراعات الكبرى بالقصرين وقد تواصل هذا الإضراب بشكل دوري طيلة الصائفة، وكذلك الاضراب العامّ الذي شنّه عمال ديوان الأراضي الدولية الذي استنفر آلاف العمال في كامل البلاد، وإضراب عمال وموظفي الشركة التونسية للتوزيع من اجل تحسين المقدرة الشرائية وتحسين ظروف العمل.
في خضمّ تلك الحركة النضالية، أطلقت السلطة سراح 20 طالبا، وقد استغلّت الجرائد الحكومية ذلك للدعاية للسلطة "الحريصة على التسامح والحوار" وهو ما ذهب إليه الطاهر بالخوجة وزير الداخلية الذي حاول جاهدا توظيف هذا الإجراء (كل المسرّحين لم يبق من مُدد عقوباتهم سوى 3 أو 4 أشهر) بشكل ديماغوجي فجّ مثل قوله بإرادة السلطة في الحوار مع الطلبة من أجل حلّ مشكل التمثيل النقابي بشكل ديمقراطي ومع العمال لإيجاد حلّ لمشاكلهم الاجتماعية عشيّة "المؤتمر الاستثنائي" لاتحاد الشغل المهيمن عليه من قبل السلطة وحزبها.
في مقابل هذه الخطب الديماغوجية للرموز الفاشية، كانت قوات القمع بمختلف تشكيلاتها تتدخل باشنع أشكال العنف للإعتداء على الطلبة وتكسير نضالاتهم وهو ما ستشهده خاصة سنة 1977.
أما في المهجر فقد دعت الهياكل النقابية المؤقتة إلى ندوة بمدينة "ليل" الفرنسية لتؤكد مواقفها السابقة من السلطة الرافضة للتعامل مع الإرادة الطلابية ومع هياكلها الشرعية، وتؤكد ايضا تنديدها بسلوك الطلبة التحريفيين الخياني والتخريبي، كما أكدت دعمها للحركة الطلابية المناضلة ولتجذّر خطها السياسي الديمقراطي الوطني ولممارستها النضالية، كما أكدت الندوة في إطار قراءتها للوضع العالمي بأن الاتحاد السوفياتي هو قوّة امبريالية اشتراكية.
2- فيفري 1977 وموعد آخر مع الجرائم الفاشية:
شهدت سنة 1977 تطوّرا للصراع الطبقي في المجتمع، إذ وصلت نضالات العمال ومختلف فئات الشعب مستوى كبيرا من الاتساع والتجذّر ضد الدولة العميلة التي تخرقها الأزمة الاقتصادية العميقة كجزء من الأزمة العالمية لأواسط السبعينات، وقد عرفت أوضاع الشعب مزيدا من التدهور (البطالة، تدهور المقدرة الشرائية...) وقد سعت الدولة كعادتها لتحميل الأزمة للشعب، لكن الشعب وعلى راسه الطبقة العاملة رفض هذه السياسة اللاشعبية واللاوطنية ووسّع من نضالاته من أجل الخبز والحرية والكرامة الوطنية، وفي هذا الإطار ستعرف الحركة الطلابية دفعا جديدا لنضالها وهو ما شهده خاصة شهر فيفري 1977، فماذا جرى؟
* 16 فيفري 1977:
تجمّع طلابي ضخم حضره أكثر من 5000 طالب لإحياء ذكرى حركة فيفري المجيدة ولإعادة طرح مسألة تواجد الفيجيل في الجامعة ومساندة النضالات الشعبية، ورغم الحضور البوليسي المكثّف الذي منع مئات الطلبة من حضور التجمّع الذي نجح في كسر هذا الطوق وتأكيد التفاف الجماهير حول الاتحاد العام لطلبة تونس المستقل والديمقراطي والمناضل وقد رُفع بتحدّ كبير شعار "بالدمّ نفديك يا هياكل". وكردّ فعل على هذه التحركات قامت قوات القمع وعلى رأسها وزير الداخلية الفاشي الطاهر بلخوجة باقتحام المبيت الجامعي باردو II الذي يقطن فيه طلبة السنوات الأولى وهي إحدى الجرائم التي ارتكبتها السلطة الفاشية ضد أبناء الشعب من الطلبة.
* 21 فيفري 1977:
يوم الجريمة الأكبر، حيث انطلقت عملية هجومية سافرة بداية من الساعة 5 و30 دقيقة مساءا حيث قامت قوات القمع بمحاصرة المبيت الجامعي باردو II. وفي التاسعة مساءا وصل عدد سيارات "البوب" إلى 10 مصحوبة بسيارة أخرى بها طبيب و4 ممرضات احتلّوا غرفة بالمبيت لمداوات جرحى البوليس. إذن فالأمر واضح منذ البداية، في الحين قامت قوات القمع بإجبار السكان المجاورين بإطفاء الأنوار في بيوتهم. كما روّجوا أن الطلبة قاموا باستعمال مدير المبيت كرهينة وبالتالي فحياته مهددة وهو أمر لم يحصل، فهذا الأخير كان رفقة عائلته يشرب "الكوكاكولا" مع رؤساء الفرق القمعية قُبيْل انطلاق الجريمة التي ابتدأت بطلب عدم مغادرة الغرف وهو ما فعله الطلبة الذين طالبوا إثرها بمغادرة "البوب" للمبيت لأن وجوده غير معلّل. حينها صدرت الأوامر باقتحام الغرف ليبتدئ الهجوم الوحشي، إذ قامت الكلاب المسعورة بتكسير الأبواب وبعثرة محتويات الغرف والتعنيف الأعمى للطلبة الذين وقع تزحيفهم على قطع البلّور المشظّى والنزول والصعود عديد المرات زاحفين من الطابق الأرضي إلى الطابق الأعلى (الرابع)، كما قامت قوات الهمج الفاشي برمي طالب من الطابق الثالث مات في التوّ (قالوا إنه انتحر) كما ضربوا طالبا آخر على فمه إلى أن سقطت كل أسنانه، كانوا يفعلون هذا ويجبرون الطلبة على الصياح "عاش البوب" كما أرغموا مجموعة من الطلبة على حمل قضبان من الحديد وأوقفوهم أمامهم على أساس أنهم يهاجمون "البوب" وقاموا بتصويرهم لاستغلال ذلك في الدعاية الرجعية الرسمية على أساس أن الطلبة "محترفين للهمجية والتخريب والعنف" والبوليس جاء لحماية "النظام والأخلاق العامة". إثر ذلك قامت قوات القمع بإجلاس الطلبة طيلة 3 ساعات في ساحة المبيت لتنهال عليهم "المتراك" والعنف الأعمى، وقد كانت حصيلة تلك الجريمة 70 جريحا و6 شهداء جاءت دليلا آخر على فاشية هذا النظام ودمويّته مثله مثل كل الدكتاتوريات القمعية في العالم (هتلر، موسيليني، فرانكو، بينوشيه، الشاه...).
* 24 فيفري 1977:
كردّ فعل مباشر، نُظّمت المظاهرات التي شارك فيها 7000 طالبا تنديدا بجريمة باردو II وقد رفع المتظاهرون شعارا يقول "يابلخوجة يا سفاك، ماتوا 6 بالمتراك"، وكان رد فعل "البوب" كعادته، لكن الطلبة كانوا هذه المرة أكثر تنظيما وأكثر استعدادا للمواجهة الذكية والثورية مما جعلهم يلحقون هزيمة نكراء بقوات القمع مما حدا بالطاهر بلخوجة للقول أن الأمر يتعلق بعصيان مدني منظم ومحضّر ضد الدولة باعتبار دقّة الأساليب الطلابية في التظاهر والمواجهة. في ذلك أُعلن الإضراب العام في كل أجزاء العاصمة والمنستير وصفاقس وقابس، وقد كانت الحصيلة كالعادة 150 موقوفا، أحيل منهم 30 أغلبهم من الطالبات إلى السجن أين تعرضوا لأبشع أشكال التعذيب حيث استشهدت طالبة (قالوا أن موتها طبيعي)، كما طال القمع أيضا طلبة فلسطينيين وصينييين مما حدا بالسفارة الصينية للتنديد بذلك رسميا. وقد ساندت الحركة الطلابية بالمهجر نضالات الطلبة بتونس، وقامت اللجنة الجامعية المؤقتة، قيادة الحركة الطلابية، بإعلام الرأي العامّ الوطني والمنظمات النقابية والانسانية التونسية والدولية والاتحادات الطلابية العربية والعالمية بفداحة وفضاعة الهجوم الفاشي على أبناء الشعب من الطلبة.
مقابل الإرادة النضالية الطلابية، كان أعداء الشعب والوطن يعقدون مؤتمرا صوريّا سمّوه "المؤتمر 20" انعقد في أفريل 1977 ببنزرت حيث كان العديد من "نـوّابهم" يقيمون بأفخر النزل، في نفس الوقت الذي مـازالت فيه دماء الطلبة تطلي جدران مبيت باردو II وكليات العاصمة والجهات وسجونها لتقف شاهدا على همجية هذه الدولة وعلى فاشيتها، وعلى عدالة النضال ضدها وشرعية مقاومتها، وقد كان ردّ فعل جماهير الطلبة رفضا مبدئيا ولا مشروطا لهذه المؤامرات واستماتة في النضال من أجل فرض المؤتمر 18 خ.ع تعدّ له الهياكل النقابية المؤقتة كممثل شرعي ووحيد للطلبة، وهو ما أكدته الجماهير عمليا بتمسكها بخياراتها النضالية التقدمية الثورية وخاصة في معركتها ضد "الفيجيل" حيث نظم الطلبة وطلائعهم الصدامية في شهر ماي 1977 عملية جريئة كان مسرحها مبيت باردو II حيث كانت المبادرة هذه المرة للطلبة حيث بادرت مجموعة من الطلبة الملثمين بالقيام بعملية تأديبية ضد عناصر "البوب" وميليشيا حزب الدستور حيث تمّ تمزيق وحرق الوثائق والملفات التي جمعها "الفيجيل" وانسحبوا دون خسائر، وقد أعلنت السلطة حالة هيجان للرد على هذه "العملية الإرهابية" حيث أوقفت عددا كبيرا من الطلبة الناشطين لمدة أشهر دون محاكمة، ثم حاكمت يوم 24 جانفي 1978، 20 طالبا وصلت الأحكام بالنسبة لـ17 منهم إلى 5 سنوات سجنا. وقد تبنّت الحركة الطلابية هذه العملية واعتبرتها عنفا ثوريا ووسيلة دفاع عن الحركة. أما الطلبة التحريفيون فقد نددوا كالعادة واعتبروا العملية "ارهابا يسراويا".
3- الحركة الطلابية وأحداث 26 جانفي 1978:
عرف شتاء 1977 تصاعدا لوتيرة النضال العمالي وبداية المواجهة المفتوحة بين الحركة النقابية والسلطة مثل ما جرى في قصر هلال، باجة... حيث احتلّ العمال مقرات الحزب الدستوري وتصادموا مع البوليس والجيش في الشوارع، وقد عرف هذا الصدام أوجه بمناسبة الاضراب العام الذي أعلنه الاتحاد العام التونسي للشغل ليوم 26 جانفي 1978، لكن بالرغم من تجذر نضالات الحركة الطلابية وانصهارها أكثر من مرة مع نضالات العمال والشعب، فإن مساهمتها في أحداث 26 جانفي لم تكن نوعية وذلك بتعلة "استقلالية القرار الطلابي" و"عدم السقوط في التبعية لأي من شقوق الرجعية الحاكمة والبيروقراطية النقابية" وهوما رددته بعض مجموعات وفصائل اليسار.
لكن رغم ذلك فإن جذوة النضال والمقاومة لم تخمد عند الحركة الطلابية، فقد أخذت المشعل وواصلت النضال بعد قمع الحركة النقابية وبعد تحويل الاضراب العامّ إلى حمّام من الدّم، فقد أعلنت الهياكل النقابية المؤقتة الاضراب العامّ منذ يوم 6 فيفري 1978 مساندة للعمال ولموقوفي الحركة النقابية، وقد تواصل الإضراب إلى يوم 26 فيفري بكلية الآداب و27 فيفري بكلية العلوم، كما دخلت الحركة التلمذية في إضراب غير محدود وقد تصادم التلاميذ مع قوات الجيش حيث سقط عديد الضحايا، كما تم إيقاف العديد من مناضلي الهياكل. أما في المهجر فقد تحرك الطلاب لمساندة نضالات العمال والتنديد بدموية النظام الفاشي، وقد احتلّ الطلبة قنصليات تونس بتولوز وغرونوبل، كما تم تنظيم مظاهرة أمام سفارة تونس بباريس، وشن عديد الطلبة إضرابا عن الطعام بتولوز، فضلا عن التجمعات الإعلامية في كل المدن الفرنسية وإن هذا لا يؤكد سوى كون الحركة الطلابية هي جزء من الحركة الشعبية وهي حليف موضوعي للطبقة العاملة.
في مقابل هذا واصلت السلطة دوسها للإرادة الشعبية، إذ كما فعلت مع الاتحاد العام لطلبة تونس، ها هو التاريخ يعيد نفسه في شكل مهزلة، إذ نظّمت انقلابا تمثّل في "انجاز مؤتمر استثنائي" لاتحاد الشغل في فيفري 1978 نصّبت بمقتضاه سيء الذكر التيجاني عبيد أمينا عامّا على الاتحاد، في ذلك الوقت انتصبت المحاكم للانتقام من النقابيين وإصدار أحكام قهرية ضدهم، كما أصدرت ترسانة جديدة من القوانين الفاشستية في مارس 1978 تحت يافطة "الخدمة المدنية" و"الخدمة الوطنية" وهي قوانين قمعية مثلها مثل قانون 1959 للاجتماعات، وقانون الشغل المضاد للاضرابات في 1966 و1973، وقانون الصحافة في 1975.
4- الحركة الطلابية من أحداث 1978 إلى انتفاضة الخبز:
كان موقف بعض المجموعات والتيارات اليسارية بالجامعة من أحداث 26 جانفي 78، يؤشر في الحقيقة لخلاف أعمق يشق صفوف اليسار المناضل بالجامعة حول عديد القضايا النقابية والسياسية، على أن الخلاف وإن كان في حدّ ذاته ميزة من ميزات الحركة الطلابية وهو إحدى علاماتها الصحية باعتباره معطى وموضوعيا، فإن انعكاس حالة القمع والارهاب الذي ظلّت الفاشية الدستورية تمارسه ضد القطاع الطلابي (والشعب عموما) برزت في شكل تعبيرات سياسية يمينية (الطلبة التحريفيون) تارة ويمينية متطرّفة (الخوانجية) أو يسراوية تارة أخرى (بعض تفرعات العامل التونسي، الشعلة وتفرعاتها) طبعت الحركة الطلابية منذ أواخر السبعينات إلى اواسط الثمانينات كتعبيرات هيمنت على الفعل النقابي والسياسي في الجامعة. كما كانت تلك التعبيرات انعكاسا لتصدّعات مسّت تنظيمات اليسار (وحتى اختراقا لبعض الفرق والمجموعات) أفرزت وضعا متأزما شمل الخطاب النقابي والسياسي، فراحت بعض الفرق (الوطد مثلا) تقفز على الواقع واشكالياته ساقطة في لغة ثورجية تعتبر مسار الحركة مسارا اصلاحيا منذ حركة فيفري 72 إلى برنامج 73 مدعية أن أي دعوة لانجاز المؤتمر 18 خ.ع أو أيّ حديث عن انتخابات (الهياكل، المجالس العلمية...) في نظام لا وطني هو من قبيل الطوباوية التي لا يُرجى شفاؤها، وأن الا.ع.ط.ت هو "وطني ديمقراطي" بالمعنى الذي يريده التيار المذكور، أو لا يكون، إذن فالأولوية هي للنضال من أجل الثورة الوطنية الديمقراطية التي ستحسم كل المهام العالقة، وبمثل هذه التقليعات دخلت الحركة الطلابية في حالة أزمة وفي نفق مسدود زاده صلف السلطة وقمعها وكذلك بروز التيار الظلامي على سطح الأحداث الذي اتى "لتطهير الجامعة والبلاد من اليسار الملحد" والذي كانت مجلاّته (المعرفة، المجتمع) تطبع في دار الحزب الدستوري، كما حضر بعض رموزه وأنصاره المؤتمر المزعوم للعصابة الدستورية ("المؤتمر 20")، هذا وقد دشّن التيار الظلامي دخوله للجامعة بتنظيم هجوم عنفي ضد مناضلي اليسار بالمركّب الجامعي (كلية العلوم) في ديسمبر 1977 على طريقة الهجومات البوليسية، هذا وقد كان وجود الإسلاميين في الجامعة أحد عوامل فرقعة الصفّ الطلابي وضرب الوحدة النضالية للحركة الطلابية وهم الذين دخلوا بفتْواهم القائلة إن "العمل النقابي حرام" وتاريخ النضال الطلابي هو تاريخ "الالحاد الفجور"...إلخ وقد أتم التيار الظلامي الرجعي مهمته سنة 1985 بالدعوة إلى "مؤتمر الحسم" و"بـإعلان تأسيس نقابة موازية" سمّوهـا "الا.ع.ت.ط" بعد أن كـان الجماعة يكفّرون العمل النقابي. وقد شكل انبعاث هذا الاتحاد الرجعي ضربة للوحدة النضالية التاريخية للأجيال الطلابية الملتفّة حول المنظمة الشرعية لعموم الطلبة: الا.ع.ط.ت.
إذن شكلت هذه العوامل مجتمعة عناصر أزمة طبعت النضال الطلابي منذ أواخر السبعينات إلى حدود أواسط الثمانينات وكان من أبرز تجلياتها انصراف الأطراف والحساسيات المناضلة عن المهامّ المركزية للحركة: الحفاظ على الهياكل وانجاز المؤتمر 18 خ.ع للدخول في متاهات كثيرا ما كانت ثانوية وبلا فائدة مثل التركيز على الصراعات البينية، أو النشاطات الفكرية والايديولوجية (على أهميتها) فضلا عن الانخراط في أتون العنف مع الاخوانجية وأحيانا كثيرة بين فصائل اليسار ذاتها، وبذلك فقد النضال الطلابي جدّيته، فاستقال عدد كبير من الطلبة من المشاركة وسقط البعض الآخر فريسة الدعاوي الخوانجية، فضلا عن كون الحركة الطلابية ضيّعت على نفسها إمكانية إنجاز المؤتمر 18 خ.ع في بداية الثمانينات (1981-1983) حين اضطرّت السلطة إلى التراجع بفعل أزمتها الداخلية التي نخرت الدولة والحزب (صراع كتل وانشقاقات...) فأطلقت سراح المساجين السياسيين (مناضلو العامل التونسي) والنقابيين الذين عادوا وأنجزوا "المؤتمر الاستثنائي" (مؤتمر قفصة 29-30-01 أفريل/ماي 1981) كما سمحت لبعض الأحزاب الليبرالية والاصلاحية بالنشاط العلني (الحزب "الشيوعي" التونسي، حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، حزب الوحدة الشعبية) كما رخصت لبعض العناوين الصحفية بالظهور (الرأي، الوحدة، المستقبل، المغرب...). لكن انشغال الحركة الطلابية بصراعاتها الداخلية حال دون ذلك، مع العلم أن المسألة كانت طرحت من قبل بعض الأطراف (النقابيون الثوريون أساسا)، ولكن هذا المسعى لم يكتب له النجاح إلا سنة 1987/1988 عندما شكلت مختلف الأطراف التقدمية "جبهة العمل الديمقراطي بالجامعة" التي توّجت أعمالها في ماي 1988 بإنجاز المؤتمر 18 خ.ع.
إن انصراف الحركة الطلابية وانشغالها في كثير من الأحيان عن مهامها الأسـاسية لم يحل دون اضطلاعها ومشاركتها الفـاعلة في صنع المحطـات الحيّة والمضيئة في تاريخها وتاريخ الشعب، فقد تصدّرت الحركة الشارع التونسي الذي خرج متظاهرا ومنددا بزيارة غير المأسوف عليه أنور السادات لتل ابيب في نوفمبر 1977، إذ نظّم الطلاب بقيادة اللجنة الجامعية المؤقتة عديد المظاهرات والمسيرات في شوارع العاصمة وصفاقس وقابس... وكذلك الأمر عند إمضاء السادات لاتفاقيات كامب ديفيد في 26 مارس 1979 حين هبّت جماهير شعبنا للتنديد بخيانة النظام المصري للقضية الفلسطينية التي تلقت طعنة أخرى من النظام الرجعي العربي بعد جرائم النظام الأردني العميل (أيلول الأسود -سبتمبر 1970) والنظام اللبناني ومليشيات الخيانة الوطنية والقومية في لبنان (ميليشيات أنطوان لحد و"حزب الكتائب" و"حركة امل" الشيعية التي صفّت الشهيد حسين مروّة) بمناسبة مجازر صبرا وشاتيلا وحصار بيروت (ماي /جوان 1982) حين التقت إرادة الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية في خندق واحدة ضد المقاومة الفلسطينية (والمقاومة الوطنية اللبنانية) وحق الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه وتقرير مصيره بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية ومقاومته الثورية الباسلة، وقد تأكد هذا المسعى التصفوي للرجعية العربية في قمّة فاس (سبتمبر 1982) من خلال مناورات كل الأنظمة الرجعية العربية وعلى راسها النظام السوري والسعودي والأردني والمصري واللبناني التي التقت مصالحها في ضرورة تصفية المقاومة الفلسطينية وإخراجها من بيروت (كانوا وقتها يقولون بالاستسلام المشرّف للمقاومة) وقد تظاهرت الجماهير العربية وفي مختلف أصقاع العالم تضامنا مع الثورة الفلسطينية وقد شهد الشارع التونسي تحركات يومية في تلك الفترة شارك فيها الطلبة بقيادة هياكلهم النقابية المؤقتة ملتحمين بالعمال والنقابيين والمثقفين. كما برزت الحركة التلمذية بعطائها النضالي البطولي في مختلف جهات البلاد، وقد كان رد فعل النظام العميل كالعادة: مزيدا من القمع وقد واجه البوليس المظاهرات بالعنف والإيقافات علما أن السلطة الرجعية نظمت محاكمة في شهر جويلية (جلسات 9 و12 و17 جويلية 1982) للعديد من الطلبة والعمال.
كما تحركت الجماهير الطلابية بمناسبة احداث قفصة في 27 جانفي 1980 حين دخل كوموندوس من التونسيين المنفيين في ليبيا (بقايا الحركة اليوسفية المتأثرة بالناصرية وعناصر قومية أخرى قريبة من النظام الليبي) لمحاولة قلب نظام الحكم في تونس انطلاقا من عملية مسلّحة بقفصة، ورغم تسجيل احترازات ضد هذه العملية الفوقية والمدعومة من الخارج، فإن الطلبة بقيادة الهياكل النقابية المؤقتة نظموا الاجتماعات الصاخبة والمسيرات لمساندة السكان في قفصة المحاصرة (سقوط ما بين 300 و600 قتيل بسلاح الجيش والبوليس) والتنديد بالتدخل الامبريالي، الفرنسي خاصة، لمساندة النظام (باقتراب أسطول فرنسي من خليج قابس وتحليق طائرات عسكرية فرنسية في سماء قفصة، فضلا عن الدعم الأمريكي لحليفه في المنطقة). كما ساندت الهياكل النقابية المؤقتة عناصر الكوموندوس بمناسبة محاكمتهم (الحكم على 15 منهم بالإعدام وقد نفّذ في 11 منهم كانوا معتقلين يوم 17 أفريل 1980) أمام المحكمة العسكرية، كما نددت بالتعذيب الوحشي الذي مورس ضد المناضل أحمد المرغني ورفاقه في ثكنات الجيش. وقد شاركت الحركة التلمذية في مختلف جهات البلاد في هذه الحركة الاحتجاجية مما حدا بالفاشية إلى إيقاف العديد خاصة من الطلبة في مختلف كليات العاصمة وصفاقس وقفصة حيث أوقف 43 طالبا تم تجنيدهم فيما بعد وقد شهد بقية العام الجامعي 1979/1980 احتجاجات عارمة ضد إيقاف الطلبة وتجنيدهم أفضى في بعض الكليات إلى عدم إجراء امتحانات آخر السنة. كما ساهمت الجماهير الطلابية بفعالية في مساندة إضراب 12 ماي 1981 الذي دعت إليه نقابة الأساتذة الجامعيين وإضراب 19 نوفمبر 1981 الذي نظمته نقابة الأساتذة المحاضرين حول مشكل الانتداب والترقية وتحسين المقدرة الشرائية كما ناضلت الحركة الطلابية ضد المدّ الظلامي الرجعي الذي اخترق الجامعة ممثلا في "طلبة الاتجاه الاسلامي" الذين طرحوا على نفسهم "أسلمة الجامعة ومحاربة الالحاد" فنظّموا العنف ضد مناضلي الا.ع.ط.ت في ديسمبر 1977، واصبحوا منذ سنة 1977 يروّجون لفكرة "المؤتمر التأسيسي" لنقابة جديدة على أساس أن الاتحاد هو في الأصل "خليّة دستورية" جاءت لدحر "صوت الطالب الزيتوني" وغيره من الدعاوي التي أرادوا بواسطتها بث البلبلة وضرب الوحدة النقابية للحركة وأداتها الا.ع.ط.ت، وعندما لم تستسغ الجماهير بـرامجهم نزعوا إلى العنف المتأصل في اطروحـاتهم الفـاشية، فكـانوا يتربصون بمناضلي الهياكل واللجنة الجامعية المؤقتة بقصد تعنيفهم، ومنعوا عديد المناضلين والطلبة المناصرين للهياكل من السكن في المبيتات (ميتيال فيل -أريانة) أينما نظّموا محكمة دائمة"لمعاقبة المناضلين". كما منعوا اكثر من مرة المناضلين من دخول كلّياتهم، وكان شيوخهم وأمراؤهم يفتون بالقول "كل من يضرب أو يركل عنصرا من عناصر الـ18 تسجّل له حسنة"، والمقصود بـ"الـ18" مناضلو الهياكل الذين يعملون من أجل إنجاز المؤتمر 18 خ.ع. وعندما أحسّ "الاخوان" أن فكرة الانجاز تجمع حولها أغلب الطلبة، (بدأ الطلبة في سنة 1981/1982 يطرحون بإلحاح ضرورة حلّ مسألة التمثيل النقابي، من ذلك التجمع العام الذي حضره أكثر من 7000 طالب يوم 12 مارس 1982 حول المسألة النقابية) عمد الظلاميون إلى الدخول في هجوم عنفي ضد مناضلي "الـ18" كان أحد فصوله الهجوم على تجمع بالمركّب الجامعي يوم 26 مارس 1982 مستعملين السلاسل والمطارق والسكاكين فكانت النتيجة إحالة 6 ضحايا إلى المستشفى، ومن الغد (27 مارس 1982) هجموا في كلية 9 أفريل على تجمع طلابي مساندة لطالبين كانا يحالان ساعتها على مجلس التأديب. وفي يوم 30 مارس 1982 كان يوم المعركة الكبرى حين دعت اللجنة الجامعية المؤقتة إلى تظاهرة بمناسبة يوم الأرض، بكلية الآداب بمنوبة، فما كان من جحافل الظلام إلا أن حاولت منع الطلبة والمناضلين من دخول الكلية مما أدى بمناضلي اليسار دفاعا عن وجودهم وعن حياتهم إلى التصدي لهذا الهجوم الفاشستي فقاوموا الظلاميين وردّوهم على أدبارهم في حين كان البوليس يراقب "تطوّر الوضاع" (12 شاحنة بوليس أمام الكلية و69 داخلها). وقد حاولت السلطة استغلال ما صار إعلاميا لإظهار الجامعة "بؤرة للعنف والإرهاب"، والطلبة، خاصة منهم المتسيسين منهم "منحرفين ومتطرفين" لذلك وجب "ردعهم" و"مراقبتهم" بصفة دائمة بواسطة جهاز حرس جامعي يُحصي الأنفاس ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة. لكن قدرة اليسار على الاقناع والتوضيح والتفاف الحركة التقدمية والمثقفين الديمقراطيين واليساريين حول الحركة وهياكلها النقابية فوّت الفرصة على الفاشيتين: الدستورية والظلامية للنيل من سمعة الحركة الطلابية والهياكل واليسار. لكن عنجهية "الإخوان" وتناقضهم الموضوعي مع الحركة وتاريخها ودورها ومهامها دفعهم منطقيا إلى مزيد الإجرام في حق الجماهير الطلابية وعدالة قضيّتها وشرعية نضالها التاريخي بأن جسّدوا في سنة 1985 فكرة "المؤتمر التأسيسي" أو "مؤتمر الحسم" الذي افرز نقابة حزبية رجعية سمّيت زيفا "الاتحاد العام التونسي للطلبة" لتكون ضربة أخرى في ظهر الحركة.
5- الحركة الطلابية وانتفاضة الخبز:
بعد أن أعادت السلطة ترتيب بيتها الداخلي سنوات 81/1983 لتجاوز آثار انفجار 26 جانفي 1978 وما رافقه من حمّامات دم وقمع أسود طال حتى الحبيب عاشور "عضو الديوان السياسي" والأمين العام للاتحاد العامّ التونسي للشغل، لجأت في بداية الثمانينات بسبب تأثير الأزمة الاقتصادية والسياسية الخانقة التي أتت أحداث قفصة (1980) لتزيدها حدة فضلا عن كونها إحدى العلامات البارزة لمدى تأزم الأوضاع العامة بالبلاد، لجأت الدولة بتوصيات "أعرافها" الامبرياليين إلى دخول مرحلة "الانفتاح والديمقراطية السياسية" و"الرقيّ الاقتصادي والعدالة الاجتماعية" وهي أهم شعارات حكومة مزالي، لكن وبفعل الأزمة التي تنخر التوجهات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية للدولة والتي بقيت عاجزة عن تلبية مصالح الجماهير الشعبية في تحسين المقدرة الشرائية وتحسين ظروف العمل وحل مشاكل البطالة... رغم رضوخ قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل المنبثقة عن مؤتمر قفصة الاستثنائي (أفريل 1981) التي حاولت تدجين الهياكل النقابية وجعلها رهينة مصالحها وهو ما رفضته عديد القطاعات التي خاضت نضالات احتجاجية (التعليم بمستوياته، الصحة، البريد...) كانت سنة 1983 سنة تعمّق الأزمة إذ تكثّف التداين الخارجي وشاع الفساد من النوع الكبير (هروب الوزراء وكبار المسؤولين بمبالغ طائلة من المال العامّ) بالإضافة إلى تصدّع جهاز الدولة بين كتل متصارعة دخلت معركة خلافة بورقيبة، فضلا عن كون الاختيارات العامة للدولة لم تكن لتخدم سوى مصالح حفنة من البورجوازيين الكبار، وكما تعودت الدولة البورجوازية دائما في تحميل الأزمة لغير المتسببين فيها، قامت في أواخر ديسمبر 1983 بالترفيع في اسعار المواد الأساسية وخاصة العجين ومشتقاته: الخبز أساسا، بعد أن "حضّر" مزالي وحكومته الرأي العام عبر الإعلام لهذا الأمر (المواطنون يرمون الخبز في الزبالة)، وكان هذا الإجراء الإستفزازي بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، إذ مباشرة إثر إعلان الزيادات في الأسعار في عطلة آخر السنة، انتفضت الجماهير بداية من 29 ديسمبر 1983 في الجنوب التونسي، إذ خرجت جماهير الشعب المفقّر في دوز وقبلّي والحامّة ثم في قفصة وقابس وصفاقس والقصرين لتمتدّ شرارة الانتفاضة الشعبية إلى مختلف جهات البلاد. وقد ساهمت الحركة الطلابية بداية من أول جانفي في انتفاضة الشعب الكادح التي عرفت أوجها يوم 3 جانفي 1984 وهو اليوم الذي نزلت فيه جماهير الطلاب من مختلف الكليّات إلى الشارع، فالتحق بها شباب المدارس والأحياء الشعبية وجموع العاطلين بمن فيهم ربّات البيوت. وقد حصد رصاص الغدر الرجعي المئات من أبناء شعبنا بعد إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية وخروج الجيش من ثكناته. لقد كانت انتفاضة شعبية بأتمّ معنى الكلمة، لكن تخلّف العامل الذاتي وعدم وجود تنظيم ثوري يؤطر تلك الانتفاضة ويسلّحها بمهامها السياسية الثورية، حال دون ارتقاء الحركة العفوية إلى ثورة سياسية ضد الرجعية ودولتها وحزبها وأجهزتها.
إذن، ساهمت الحركة الطلابية في إذكاء الانتفاضة وتصعيد شرارتها فالتحم الطلبة بالعمال والفلاحين والمهمّشين والتلامذة... في المدن والأحياء الشعبية والمناطق الصناعية العمالية... في وحدة نضالية صمّاء اجبرت الرجعية على التراجع في الزيادات وتدخل بورقيبة تلفزيا يوم 6 جانفي 1984 لإعلان ذلك. علما ان الجماهير الشعبية قدّمت طيلة أسبوع كامل أروع صور التضحية فسقط المئات من الشهداء منهم شهيدين من الحركة الطلابية: الرفيق فاضل ساسي (كلية 9 أفريل) الذي سقط يوم 3 جانفي 1984 أمام "الانترناسيونال" بالعاصمة، والرفيق فتحي فلاح (المدرسة القومية للفلاحة)، هذا وقد رفعت قوى الشعب عديد الشعارات المتجذرة مثل: خبز وماء ومزالي لا، يسقط مزالي، يسقط بورقيبة، يحيا الشعب، خبز حرية كرامة وطنية...، وفضلا عن سقوط المئات، حاكمت الفاشية عددا كبيرا من أبناء الشعب في تونس وباجة وقفصة وصفاقس وسوسة و... بتهم "العنف المنظم... حرائق... قتل... دعوة السكان للعصيان" وقد وصلت بعض الأحكام إلى الإعدام، كما بقيت حالة الطوارئ مطبقة لمدة طويلة.
إن انتفاضة الخبز كانت إحدى العلامات المضيئة في تارخ شعبنا وجماهيرنا الكادحة، فرضت فيها الجماهير إرادتها رغم القمع الأسود ورغم سقوط المئات، وقد كانت مناسبة للمناضلين الثوريين لتعميق قرائتهم للمجتمع التونسي وبضرورة تأسيس حزب الطبقة العاملة وهو ما حدث بعد سنتين بالضبط بإعلان تاسيس حزب العمال الشيوعي التونسي يوم 3 جانفي 1986 كهيئة أركان الطبقة العاملة والشعب الكادح في صراعه الطبقي والسياسي ضد عدوّه الطبقي البرجوازية التابعة المرتبطة بالراسمال الاحتكاري العالمي ونظامها السياسي الدكتاتوري الذي يشكل حجر العثرة أمام تقدم شعبنا وتطور مجتمعنا.
هذا وقد واصلت الحركة الطلابية بقيادة هياكلها النقابية المؤقتة نضالها وخاضت عديد التحركات من أجل إطلاق سراح أبناء الشعب الموقوفين والمحاكمين، وكان نصيبها كما في كل مرة عددا كبيرا من الموقوفين والمجنّدين، كما خاضت الحركة صراعا لا هوادة فيه ضد زمرة الظلاميين التي انكشفت حقيقتها عندما وقفت ضد انتفاضة الشعب وضد هبّته للنضال من اجل خبزه وحريته، فقد اعتبرت "حركة الاتجاه الاسلامي" أن انتفاضة الخبز هي من قبيل "الفتنة والإفساد في الأرض" و"كل فتنة ظلالة، وكل ظلالة في النار"، كما وقفت ضد "ثورة الجياع" كل الأحزاب الكرطونية والاصلاحية الدائرة في فلك السلطة والمتلحّسة على موائدها.
في السنة الجامعية 84/1985، وباحتدام الأزمة داخل السلطة (دولة وحزب حاكم) وبانفجار الوضع الاجتماعي والسياسي واتساع رقعة الاضرابات النقابية وتوسع تحركات المعارضة السياسية بمختلف نزعاتها شنت السلطة هجوما سافرا على الاتحاد العام التونسي للشغل لتصفية ـاطره الشرعية وافتكاك مقرّاته من طرف المليشيات والبوليس واتنصيب "الشرفاء" بدلا من الهياكل الشرعية وإطلاق يد العصابات الدستورية المسلحة لممارسة العنف الواسع ضد النقابيين (نذكر هنا أن الرفيق الشهيد نبيـل بركاتي كان قد كسرت يده ومورس ضده عنف همجي أثناء الهجوم على الاتحاد المحلي بقعفور) وتنظيم المحاكمات ضدهم، كما شهدت البلاد إثر ذلك هجوما سافرا ضد المعـارضات السيـاسية وخاصة مناضلي الحركة الطلابية (محـاكمات وتجنيد..) واليسار وكذلك العديد من الصحفيين المستقلين والمثقفين والمبدعين (فنانين ومسرحيين وشعراء...) وأنصار "الاتجاه الاسلامي"، علما وأن الحركة الطلابية استطاعت سنة 1985 سد الشغورات الحاصلة في الهياكل النقابية المؤقتة واللجنة الجامعية المؤقتة بفعل القمع والتخرّج... وقد استطاع مناضلو الحركة انجاز الانتخابات في بعض الأجزاء والالتجاء للتعزيز حين استحال الانتخاب، وكان ذلك نصرا جديدا تحرزه الهياكل والحركة الطلابية المناضلة باعتبار أن إحدى أهم أولويات الحركة هو الحفاظ على الهياكل كممثل شرعي ووحيد للاتحاد العام لطلبة تونس ولعموم الطلبة.
وقد اتسمت تلك السنوت بعسكرة خانقة للبلاد استفحلت بتطور معركة الخلافة بين مختلف شقوق وكتل الحكم التي آثر البعض منها الفرار من البلاد على غرار مزالي الذي عوّضه رشيد صفر الذي ابتدأ معه برنامج الاصلاح (اقرأ الخراب) الهيكلي بداية من سنة 1986، هذا البرنامج المملى من قبل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والذي يقوم على التفويت في القطاع العام للخواص (الخوصصة) وتخلّي الدولة التدريجي عن دورها الاجتماعي وتحرير العملة المحلية وفتح الحدود أمام السلع والرساميل الأجنبية للاستثمار، أي في كلمة برنامج في خدمة أقلية مافيوزية مستثرية على حساب الملايين، وحتميا كانت نتائج هذه التوجهات مزيدا من الغنى للأغنياء ومزيدا من الفقر للفقراء. وبالطبع، ولتمرير هذه البرامج الكارثية لا بد من تشديد وتيرة القمع والقهر وتكميم الأفواه، وكان نصيب الحركة الطلابية، كما كانت دوما مزيدا من العسكرة مثلما شهده الحرم الجامعي يوم 26 أفريل 1986 حين انقسمت جموع الطلاب إلى معسكرين متضادين، معسكر الظلاميين الذين رددوا شعار "الله أكبر عاصفة على اليسار ناسفة"!!! ومعسكر التقدم والنور الذي رفع عاليا شعار "شيوعيين شيوعيين ديما ديما منتصرين"، وكان مسعى الخوانجية يهدف إلى كسب الحركة الطلابية بعد إعلان بعث نقابتهم السوداء التي ظلّت فئوية معزولة وجمهورها متحزب في إطار سعي يائس لكسب شرعية مفقودة، أما اليسار الثوري والتقدمي فقد كانت تحركاته في إطار الربط مع تقاليده النيرة ونضاله من أجل انجاز المؤتمر 18 خ.ع، وقد كان رد فعل السلط الفاشية هجوما سافرا على الحرم الجامعي (خاصة المركب الجامعي) لتجنيد المئات من الطلبة وترحيلهم إلى ثكنات رجيم معتوق والمطروحة I وII والفوّار وقرعة بوفليجة ومكثر وجزيرة زمبرة إلخ...، علما أن المشرف على هذه الهجومات القمعية كان وزير الداخلية زين العابدين بن علي الذي كان في كل مرة يتنقل شخصيا للجامعة ويوجّه الهجومات وقد كان هو الذي اشرف بنفسه قبل عام على تفكيك الاتحاد العام التونسي للشغل.
في سنة 86/1987، تكثفت وتيرة القمع لتشمل كل المعارضين السياسيين. وقد تزامن اشتداد وتيرة القمع مع إعلان تأسيس حزب العمال الشيوعي التونسي يوم 3 جانفي 1986 (الذكرى الثانية لانتفاضة الخبز) الذي غطى البلاد بمناشيره الدعائية والتحريضية التي تفسّر وتوضح للشعب حقيقة الأوضاع وتدعوه لمزيد من الجرأة ومزيد من النضال، فنُظّمت لمناضليه وأنصاره المحاكمات المتتالية التي شملت العشرات في قابس وقفصة وسيدي بوزيد وباجة... وقد وصلت الأحكام لمناضلي سيدي بوزيد إلى 10 سنوات سجنا. كما سقط اول شهيد للحزب يوم 8 ماي 1987 تحت التعذيب الوحشي بمركز شرطة قعفور الرفيق نبيل البركاتي بمناسبة توزيع الحزب لبيان يحمل عنوان «الصراع الدستوري-الاخوانجي لا مصلحة للشعب فيه" متحدثا عن الصراع بين السلطة و"الاخوان" الذين أعادوا تنظيم أنفسهم وكثفوا تحركاتهم بعد اكتشاف مساعي انقلابية (جماعة الجهاز الخاص) للخوانجية توجت في صائفة 1987 بعمليات إرهابية ضد أهداف سياحية بالساحل (المنستير...) كانت نتيجتها أحكاما بالإعدام ومزيدا من العسكرة خاصة بتولي بن علي للوزارة الأولى.
أما في الحركة الطلابية فقد شهدت السنة الجامعية 86/1987 نقاشات معمّقة بين مختلف الحساسيات المناضلة لأجل تكوين جبهة نضال وعمل تتولى مهمة التحضير العملي لانجاز المؤتمر 18 خ.ع وهو ما تحقق مع بداية السنة الجامعية 87/1988 بإعلان تشكيل "جبهة العمل الديمقراطي بالجامعة" التي استغلت "فجوة" ما بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987 لانجاز المؤتمر 18 خ.ع.
في مـاي 1988، علما وأن بداية السنة الجـامعية 87/1988 ابتدأت بإعلان تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي في 15/16 نوفمبر 1987 الذي طرح على نفسه منذ يومه الأول ضرورة التعجيل بانجاز المؤتمر 18 خ.ع، علما وأن إعلان انبعاث اتحاد الشباب واجهته السلطة بهجوم على العديد من الطلبة المناضلين في تيار "النقابيين الثوريين" الذراع النقابي لحزب العمال في الجامعة، وقد دام إيقاف العديد من الرفاق أكثر من شهر في دهاليز وزارة الداخلية ثم وقع تجنيدهم في رجيم معتوق، على أن هذه الهجومات القمعية لم تزد مناضلي الحركة الطلابية إلا إصرارا وعنادا ثوريا تُوّج بتحقيق حلم الأجيال بعد 17 سنة من السرية والنضال والتضحية فكان الانجاز في ماي 1988 بكلية الحقوق بتونس، هذه الكلية التي احتضنت أهم معارك الحركة من ذلك أنها كانت مسرحا لحركة فيفير 1972 المجيدة، فكان ذلك بمثابة التوسيم لهذا الجزء الجامعي المناضل.
IV- المؤتمر 18 خ.ع: مواصلة لإرث الحركة وتمسك بثوابتها:
خلال السنة الجامعية 87/1988 كونت مختلف الأطراف التقدمية "جبهة العمل الديمقراطي بالجامعة" على قاعدة أرضية نقابية وسياسية دنيا تؤكد الالتزام والاعتزار بنضالات الأجيال الطلابية المتعاقبة، وبالنضال من أجل التعريب الشامل للتعليم ومراجعة محتوياته على قاعدة ديمقراطية التعليم ووطنية الثقافة، واعتبار الحركة الطلابية جزءأ لا يتجزأ من الحركة الشعبية المعادية للرجعية العربية والصهيونية والامبريالية وذلك من أجل توحيد الجهود وقيادة نضالات الطلبة من أجل إنجاز المؤتمر 18 خ.ع وإعادة بناء الاتحاد العام لطلبة تونس الذي حاولت السلطة من خلال مؤتمراتها ومخططاتها فرض وصايتها عليه وعلى الحركة الطلابية التي خاضت طيلة 17 سنة نضالا عنيدا ضد نهج التدجين والاختراق مقدمة أكبر التضحيات رغم القمع من جهة والتخريب وتشتيت الصفوف الذي مارسته الفرق الانتهازية والرجعية (الإخوان) من جهة أخرى، وقد انتصرت الحركة الطلابية وطلائعها المناضلة في الأخير وتم تحقيق حلم الأجيال بعد 17 سنة من الاستثناء لينعقد المؤتمر 18 خ.ع في ماي 1988 بكلية الحقوق بتونس وسط مساندة كبيرة من قبل كل المنظمـات والقوى السياسي الديمقراطية محليا وعربيا ودوليا، وحضور مكثف لمختلف الأجيال الطلابية، وقد أقرّ المؤتمر سبع لوائح كانت في تناسق تام مع محتوى شعارات حركة فيفري 1972 المجيدة، وهذه حوصلة عامة لمختلف اللوائح.
- اللائحة السياسية العامة: قدمت لمحة عن نضال الطلبة ضد الاستعمار المباشر ثم ضد سلطة الاستعمار الجديد التي مارست الوصاية والتدجين ضد المنظمة الطلابية، كما وقفت على خصائص الوضع الحالي للجامعة والطلبة وأكدت على ضرورة فرض النشاط النقابي والسياسي ورفع العسكرة وضرورة إيجاد حلول جذرية للمسألة التعليمية مقرّة بالطابع اللاديمقراطي واللاشعبي للسياسة التعليمية وبهيمنة الثقافة الاستعمارية والفكر الغيبي عليها، وأكدت اللائحة تمسك الاتحاد العام لطلبة تونس بشعار الجامعة الشعبية والتعليم الديمقراطي والثقافة الوطنية، وعلى مستوى البلاد، أكدت اللائحة وقوف الاتحاد اللاوشروط إلى جانب القوى الديمقراطية والتقدمية في نضالاتها وانحيازه التام إلى جانب جماهير الشعب التواقة إلى بديل ينتفي فيه الاستغلال والهيمنة الأجنبية، كما أكدت اللائحة مساندتها للاتحاد العام التونسي للشغل في نضاله من أجل تحسين أوضاع العمال، وللمنظمات الانسانية والمهنية في نضالها من أجل حرية الصحافة واستقلاليتها، وعلى المستوى العربي أشارت اللائحة أن جزءا من الوطن العربي لازال يرزح تحت الاحتلال كفلسطين ولواء الاسكندون وعربستان وسبتة ومليلة وجنوب لبنان والجولان، والباقي يعاني التبعية الاقتصادية والسياسية للامبريالية، وقد أكدت اللائحة أن الحركة الطلابية التونسية وهي تتبرّأ من كل شوفينية وتعصّب تؤكد انتماءها القومي وتعبّر عن التزامها بالنضال من أجل تحرير كل الأراضي العربية المحتلّة، وفي هذا الإطار تعتبر القضية الفلسطينية هي القضية المركزية لحركة التحرر الوطني العربية كما أقرّت اللائحة مساندة الشعب اللبناني في نضاله ضد الاحتلال الصهيوني وأدانت الحرب العراقية الإيرانية معتبر إياها مدمرة ومعادية لمصالح الشعبين ولا مصلحة فيها إلا للامبريالية والصهيونية. وعلى المستوى العالمي فقد أكدت اللائحة معاداة الامبريالية ومساندة حركات التحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي في كل أرجاء المعمورة ورفض كل اشكال العنصرية والميز على اساس اللون أو الدين أو العرق ورفض سياسة الإرهاب النووري والحروب غير العادلة المفروضة على الشعوب.
- لائحة الشؤون الجامعية: طالبت بضرورة إقرار ديمقراطية التعليم على مستوى التسيير الإداري بين الأطراف المكونة للجامعة (طلبة وأساتذة وإدارة) وكذلك على مستوى التمويل الذي يضبطه المجلس العلمي، كما طالبت بالقضاء على سياسة الانتقاء وتوفير الشغل لكل حامل الشهائد، كما نادت اللائحة بمبدأ شعبية التعليم واساسا مجانيته وهو ما يتناقض مع خوصصة التعليم (الجامعة الحرة)، وكذلك إلزاميته وضرورة التشجيع على البحث العلمي، إلى جانب ضرورة الترفيع في المنحة وزيادة عدد الأحياء الجامعية وتحسين الأكلة.
- اللائحة الثقافية: دعت إلى قيام حركة ثقافية تقدمية وبلورة ثقافة بديلة وطنية ذات افق أممي واعتبار المثقف الوطني منحازا يؤسس للنقيض مبنى ومعنى، وأوصى المؤتمرون ببعث نواد ثقافية مختلفة.
- لائحة حول فلسطين: سجلت باعتزاز تصاعد الانتفاضة وثمنت الخطوات المقطوعة نحو تعزيز الوحدة الوطنية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية.
- لائحة حول حركات التحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي في العالم: أكدت موقف الحركة الطلابية التونسية من الامبريالية ومساندة الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني والتنديد بالحرب العراقية الإيرانية ومناهضة ممارسات نظام بريتوريا العنصري وثمنت نضالات شعوب أمريكا اللاتينية.
- لائحة حول السلم والتقدم: أكدت وقوف الاتحاد إلى جانب المنظمات الشبابية العالمية من أجل السلم ودرء الخطر النووي والحروب، كما دعت إلى التخفيض في الاعتمادات الحربية وتحويلها لأغراض تخدم الانسانية، ونادت بسحب الأساطيل الحربية من البحر الأبيض المتوسط.
- لائحة موجهة إلى كل المنظمات المهنية والانسانية والثقافية: جددت مساندة الاتحاد للنقابيين من أجل استرجاع الاتحاد العام التونسي للشغل مستقلا ومناضلا وديمقراطيا، وكذلك مساندة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسـان وفرع تونس لمنظمة العفو الدولية وجمعية الصحافيين واتحاد الكتّاب والجامعة التونسية لنوادي السينما وجمعية السينمائيين الهواة وعمادة المحامين والأطباء والصيادلة، في نضالهم المشروع من أجل حقوق ممنظوريهم ودفاعهم عن استقلالية منظماتهم. كما توجهت اللائحة بالشكر إلى كافة الشخصيات الديمقراطية والمنظمات السياسية التي وقفت دائما إلى جانب الطلبة ونضالهم العادل من أجل استرجاع منظمتهم التي حرموا منها طيلة أكثر من 17 سنة.
- القانون الأساسي والنظام الداخلي: كان مضمونهما ديمقراطيا، تم استلهامه من برنامج 1973.
إن محتوى مجمل هذه اللوائح يؤكد مستوى النضج النقابي والسياسي لمناضلي الاتحاد العام لطلبة تونس كإطار لشبيبة مثقفة تقدمية ومناضلة. ولقد عكست تشكيلة المكتب التنفيذي هذا النهج إضافة إلى التمثيلية السياسية الكفاحية.
V- المؤتمر 19 وبداية التصدع الداخلي:
كانت المدة النيابية بين المؤتمر 18 خ.ع والمؤتمر 19 مخصصة أساسا لإعادة بناء الهياكل القاعدية للمنظمة، ورغم هذا الانشغال فقد فرض الاتحاد نفسه على الساحتين الجامعية والشعبية، فسحب البساط من تحت منظمة "الخوانجية" وأصبح منظمة وطنية لها وزنها فلم يدّخر جهدا للدفاع عن مصالح الطلبة المادية والمعنوية ودعم النضال الديمقراطي والتقدمي بالبلاد، ورغم عودته للقانونية فإن الاتحاد ظل يناضل في ظل ظروف صعبة، فالسلطة ممعنة في سياستها التربوية المعادية لمصالح الطلبة وخاصة مع مجيء محمد الشرفي على رأس وزارة التربية والعلوم والذي كان يحمل في جرابه مشروعا "لاصلاح التعليم" كجزء من برنامج الاصلاح/الخراب الهيكلي المملى من طرف البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، كما ان السلطة حافظت على جهاز "الأمن الجامعي" ورفضت إرجاع أملاك الاتحاد ووثائقه ومقرّاته، من ناحية أخرى كان الاتحاد في مواجهة مفتوحة مع منظمة الخوانجية اللقيطة التي كانت تتمتع بإمكانيات مالية ومادية هامة تسخرها لاستقطاب الأنصار وتكسير النضـالات التي يدهو لها الاتحاد، أما "الطلبة الدساترة" فإنهم كانوا في تلك الفترة مهمشين ولا وزن لهم.
في خضم هذه الظروف اتعقد المؤتمر 19 من 27 أكتوبر إلى 1 نوفمبر 1989 بكلية الحقوق بتونس، وهو الذي كان من المفروض أن ينعقد في شهر أوت 1989 إثر قرار الهيئة الإدارية المنعقدة يومي 16 و17 جويلية 1989، وقد كان هذا التأجيل نابعا من الرغبة في الحفاظ على وحدة الصفّ الطلابية بعيد تعبير أحد الأطراف الطلابية (الوطنيين الديمقراطيين بالجامعة) عن عدم استعداد للانظباط لقرار الهيئة الإدارية وعدم استعداده للمشاركة في مؤتمر أثناء الصيف، على أن هذا الخلاف وإن وقع تجاوزه فإنه في الحقيقة كان يؤشّر لخلاف أهم وأكبر سوف يكون له تأثيره على مستقبل المنظمة وسوف يخيّم على أشغال المؤتمر ويؤدي إلى رفض المجموعة الطلابية المذكورة (الوطج) الترشح للمكتب التنفيذي والانسحاب الفعلي من هياكل المنظمة خلال المدة النيابية بين المؤتمرين 19 و20. نشير هنا إلى أن تمثيلية الأطراف السياسية داخل المؤتمر كانت كالآتي: النقابيين الثوريين (جناح اتحاد الشباب في الجــامعة) ممثلون بـ107 نائبا - الوطج: 65 - المستقلون: 35 - الطليعة الطلابية العربية (طلبة البعث): 19 -الوطد: ؟ - الطلبة الشيوعيون (طلبة الحزب "الشيوعي" التونسي من أنصار مصطفى التواتي المختلف مع محمد حرمل): 11 - الترتسكيّون: 13 نائبا.
وقد انقسم المؤتمرون إلى تحالفين أساسيين الأول يضم النقابيين الثوريين والمستقلين والطليعة الطلابية العربية والطلبة الشيوعيين، والثاني يضم العائلة الوطنية والتروتسكيين.
وقد كان أهمّ سبب للخلاف هو محتوى اللائحة السياسية العامة التي أقرها المؤتمر (123 صوتا مقابل 119) والتي تنصّ على ضرورة النضال من أجل فرض الحريات وحقوق الانسان في البلاد، وقد اعتبر الوطنيون الديمقراطيون بالجامعة هذا النضال اصلاحيا يتناقض مع النضال الوطني الديمقراطي الحقيقي الذين لم يقدروا على تقديم صورة ملموسة له، وفي الحقيقة كانت هذه التعـلات غطـاءا لتغطية فشلهم في فرض أغلبية داخل قيادة الاتحاد وأمين عام من بينهم ضد إرادة المؤتمرين، أي أنهم كانوا أقلية تريد أن تنال الأغلبية في المكتب التنفيذي. ولمّا عجزوا في فرض هذا الأمر انسحبوا فعليا من المنظمة ومن النضال متجاهلين نتائج سلوكهم الفئوي الذي من شأنه إضعاف المنظمة ودورها النضالي وخطها الكفاحي.
ويمكن الجزم بأن المؤتمر 19 ورغم كونه كان محطة نضالية هامة ومهرجانا طلابيا تابعه الآلاف من الطلبة وعديد الأحزاب والمنظمات المحلية والعالمية وبرغم جرأة القرارات والتوجهات التي خطّها، فقد جسّد بداية تصدّع سوف يتواصل ويتعمق ويؤثر سلبا على مستقبل الاتحاد والحركة الطلابية عموما سببه الفئوية وقصر النظر علاوة على الطفولية السياسية والفكرية على أن هذا لا ينقص من قيمة النضالات الهامة التي خاضتها الحركة الطلابية في الفترة الفاصلة بين المؤتمرين 19 و20 حيث عاد البوليس للتدخل بشراسة وتجنيد مئات الطلبة. كما شاركت الحركة الطلابية بقيادة الاتحاد في مناصرة العراق والتنديد بالعدوان الامبريالي عليه حيث كان الاتحاد عضوا مؤسسا لـ"لجنة صدّ العدوان عن الوطن العربي ومناصرة العراق" كما قاد الاتحاد المسيرات الضخمة والمظاهرات في الشوارع والتحمت نضالاته مع الجماهير الشعبية، وقد بلغ عدد المشاركين في بعض المظاهرات 10 آلاف طالب مما اضطرّ السلطة إلى إغلاق الجامعة طيلة أسبوعين، ورغم ذلك تواصلت مسيرات التنديد في الشوارع وفي مختلف شوارع البلاد.
VI- المؤتمر 20 وبداية الانحراف اليميني:
انعقد المؤتمر 20 في صائفة 1991 ببئر الباي، في ظرف دقيق تمرّ به الجامعة والبلاد إذ تميّزت نهاية العام الجامعي 90/1991 بتفاقم الصراع الدستوري الخوانجي، إذ شنّت الفاشية الحاكمة حملة قمعية واسعة ضد "حركة النهضة" وقد طالت الحملة أنصار هذه الحركة في الجامعة، وقد وصل الأمر حدّ إطلاق النار على مجموعة منهم بالمركب الجامعي وقتل طالب آخر كان يوزّع مناشير... وحلّت السلطة "الاتحاد العام التونسي للطلبة" بعد إعلانه "خارجا عن القانون" وادعت وجود "قنابل وأسلحة" في مقرّاته... كما سجنت قيـاداته وأعضائه النشيطين، على أنه يجب التأكيد على أن هجوم السلطة على الخوانجية لم يكن من موقع الدفاع عن الديمقراطية والتقدم كما تزعم، وإنما كانت غايتها هي إزاحة خصم سياسي لا يقلّ رجعية وفاشية عنها، بل أن الفاشية الحاكمة استغلّت هجومها على الحركة الظلامية لتكميم أفواه الجميع وشنت هجوما شاملا ضد "الأخضر واليابس" كما يقال، وإن كنا نعتقد أن القمع هو ميزة ثابتة للنظام الحاكم وهو اسلوب قارّ منذ 1956، إذ يكفي أن نذكر أنه حتى في سنوات "الفجوة" تعرّض مناضلو اتحاد الشباب وحزب العمال للمحاكمات في 1988 و1989 و1990 و1991 أي قبل المواجهة المفتوحة بين السلطة والخوانجية، وهجوم السلطة ضد مناضلينا ومناضلي الحركة الديمقراطية متواصل حتى اليوم.
إذن، قبيل انعقاد المؤتمر 20 بدأت "التحرشات" بمناضلي الاتحاد العام لطلبة تونس من ذلك اعتقال نوفل الزيادي عضو المكتب التنفيذي لمدة شهر بسبب تنظيمه لاجتماع عامّ، كما تكثفت تدخلات البوليس الجامعي لمحاصرة أنشطة الاتحاد وقمع الطلبة الذين يشاركون فيها وقد تزامن ذلك مع منشور وزير التعليم العالي محمد الشرفي (3 مارس 1991) الذي جاء لمزيد محاصرة النشاط النقابي ومنع العمل السياسي. وأمام توتر الأوضاع بالجامعة نتيجة العنف والعنف المضادّ بين الفاشيّتين والذي لا مصلحة للشعب والطلبة فيه، قامت السلطة بمناورة تتمثل في تشكيل "لجنة وطنية" أسندت رئاستها لمحمد مواعدة (رئيس ح.د.ش) لتدارس أسباب العنف في الجامعة وتقديم تصوراتها "لحمايتها من التطرف بكل اشكاله"، وقد كان هدف هذه المناورة رغبة السلطة في ربح الوقت وتغطية هجومها القمعي على "الاخوان" وقد شارك الاتحاد في هذه اللجنة في محاولة للدفاع عن حرية العمل النقابي والسياسي، وعن مكاسب الحركة لكن بدون جدوى فقد بقي تقرير اللجنة في رفوف مكاتب الرئاسة دون أن يطّلع عليه أحد ولم يؤخذ ما جاء فيه من مقترحات رغم هزالها، بعين الاعتبار.
في هذا الجوّ انعقد المؤتمر الذي لم يشهد صراعات برامجية كبيرة باعتبار سير أغلب النواب بالانسجام (الأغلبية الساحقة من اتحاد الشباب وأنصاره) وعدم وجود مشاريع لوائح متعددة في ظل تواصل غياب المنسحبين من المؤتمر 19 (العائلة الوطنية) وعدم مشاركتهم في الانتخـابات القـاعدية، هذا فضلا عن "اندثـار" أغلب الأطراف وانسحابها بعد اشتداد وتيرة القمع، وعلى خلاف خطاب الأمين العامّ المتخلي المناضل سمير حمّودة الذي اعتبر "متطرّفا" لوقوفه على أهم القضايا التي تهمّ الطلبة والبلاد فاضحا الطابع الرجعي لسياسات السلطة لذلك لم يحظى خطابه باستحسان السلطة وذيولها، فإن اللوائح الصادرة عن المؤتمر وخاصة اللائحة النقابية تقبّلتها السلطة بارتياح واعتبرتها "إيجابية" و"خطوة في اتجاه ترشيد العمل النقابي بالجامعة" وذلك لما تضمنته من إقرار ربط النشاط النقابي في كل جوانبه بالإعلام المسبق للعمداء ومديري المؤسسات الجامعية والسلط المعنية وهو ما ينسجم مع مضمون منشور محمد الشرفي، وقد حاولت العناصر التي مرّرت تلك التنازلات في اللائحة التقليل من شأنها، هذه العناصر هي العناصر التي ستستقيل أو تطرد من حزب العمال واتحاد الشباب في أواخر 1993 والتي سمّيناها "الكتلة اليمينية" والتي يعتبر المؤتمر 20 أحد المؤشرات الأولى الهامة لبداية ظهورها.
أما عن المكتب التنفيذي المنبثق عن المؤتمر فقد عرف عودة المنسحبين في المؤتمر 19 بعد تنقيح النظام الداخلي بشكل يسمح لهم بالترشح من خارج قاعة المؤتمر. ويمكن القول أن المؤتمر 20، رغم حفاظه على حدّ أدنى من الاستقلالية وعلى حد أدنى نقابي معاد للفاشية والامبريالية، فإنه تميّز بإرساء الأرضية الملائمة لتطور انحراف يميني من خلال القبول بـ"وضع ضوابط" للنشاط السياسي والنقابي والثقافي للطلبة، مما سيضرب التوجه النضالي الراديكالي للاتحاد وسيسيل لعاب السلطة ويدفعها لطلب المزيد على حساب الحركة ومكاسبها وجماهيرها إلى حد اشتراط تواصل نشاط المنظمة بعودة "الطلبة الدساترة" للاتحاد واعتبارهم طرفا سياسيا مثل بقية الأطراف بالجامعة. في تلك أثناء (91/1992) كان الخوانجية قد "مُسحوا" من الجامعة، وبدأ الدساترة يعدّون العدة لمواجهة الفصيل اليساري المتبقي على الساحة (اتحاد الشباب) تدعمهم أجهزة السلطة القمعية والإدارية... وقد عرف المكتب التنفيذي الجديد في فترة أولى بعض التسهيلات (ترسيمات، منح، سكن، جوازات سفر...) قبل أن تترجع السلطة عن تلك التسهيلات وتكثف التضييق من جديد على أنشطة الاتحاد وبـداية "الهرسلة" من أجل "فرض الطلبة الدساترة" داخل قيادة المنظمة، وصولا إلى التهديد بعدم السماح بعقد المؤتمر الموالي في صورة عدم الموافقة على منح مقعدين للدساترة في المكتب التنفيذي، وقد كان الوزير محمد الشرفي آنذاك هو المتحدث باسم السلطة في هذا الأمر (؟!) على أن السلطة ما كانت لتتجرّأ على ذلك لو لم تجد ما يشجعها في سلوك قيادة الاتحاد: ما ورد في اللائحة النقابية من تنازلات، والسكوت عن القمع الذي تعرّض له أتباع "حركة النهضة" في الجامعة من ملاحقة واعتقالات وتعذيب وحرمان من الدراسة ومن أبسط الحقوق (منحة، سكن...). رغم تباين الاتحاد مع قرار حلّ المنظمة الطلابية الاخوانجية، يضاف إلى ذلك تركيز قادة الاتحاد في تدخلاتهم وأحاديثهم الصحافية على الخطر الأصولي مع إبراز دور الاتحاد في مقاومته، وبالمقابل يغضّون الطرف -نسبيا- على الطلبة الدساترة ويتحاشون التشهير بهم وفضحهم، من ذلك حضور بعض قادة الاتحاد اجتماع الاتحاد العالمي للطلاب بعاصمة قبرص في ربيع 1992 بمعية سيء الذكر سمير العبيدي، ولم يتوان البعض منهم عن شنّ حرب ضد الحضور الخوانجي مع اغفال التنديد بالسلطة، وهو ما نوّهت به صحافة السلطة، وقد كان هذا الموقف، كما ذكرنا آنفا، امتدادا لموقف بعض العناصر من خارج الجامعة، الذين سيشكلون لاحقا كتلة يمينية انتهازية. لقد بدأت هذه العناصر، تحت ضغط الفاشية، وبعض الأوسط النقابية والبورجوازية والبورجوازية الصغيرة المرتبطة بها، تتخلى عن الموقف المبدئي الثوري من الثنائي الرجعي الفاشي، الطغمة الدستورية الحاكمة أولا والحركة الأصولية التي تعارضها من موقع سلفي ظلامي ثانيا، وذلك بإعطاء الأولوية لمقاومة الطرف الثاني (المضروب) بدعوى أنه الأخطر، ومهادنة الطرف الأول الجاثم بكلكله على صدر الشعب بدعوى أنه "أهون الشرور" ولم تتوقف انحرافات قيادة الاتحاد عند هذا الحدّ، فقد تجرّأ الأمين العام نوفل الزيادي وبعض الأعضاء المؤثرين في المكتب التنفيذي على إرسال برقية شكر لبن علي، على إثر إطلاق سراح احدى مناضلات الاتحاد كانت موقوفة في إطار قمع حرية العمل النقابي والسياسي، وذلك أثناء المجلس الوطني المنعقد في المنستير في أوت 1992، وبرر هذا السلوك الذي نوّهت به الصحافة الرسمية، بأن الاتحاد "يثمّن كل ما هو إيجابي في سلوك السلطة" وقد تناسى أصحاب هذه المواقف، الأسباب التي من أجلها أوقفت الطالبة، كما تناسوا أن ما قام به بن على ليس منّة، بل كان نتيجة ضغوط مناضلي الاتحاد، كما فاتهم أنهم بهذا السلوك عادوا إلى تقليد لم تعرفه المنظمة الطلابية إلا على أيدي "الدساترة" عهد سيطرتهم على المنظمة، كما نذكر في هذا الصدد ما فعله الأمين العام نوفل الزيادي في صائفة 1993 بملاقاته محمد الغرياني بتعلّة محاولة "فهم مخططاتهم" بينما الدافع الحقيقي كان الخوف من السلطة ومحاولة ربط خيوط معها "لطمأنتها" والظهور بمظهر الطرف النقابي "المتعقّل والمتّزن" لا "المتطرّف".
إن انحراف قيادة الاتحاد لم يكن هو المحدد في استكلاب السلطة ومزيد هرسلتها للمنظمة ومناضليها، إنما هو في الحقيقة تتمّة لنهج السلطة في إخضاع كل المواقف الرافضة لصلفها وعنادها، فبعد استفرادها بالإسلاميين وإنهاكها لهم جاء كما هو منتظر دور القوى والشخصيات التقدمية والمستقلة، وفي هذا الإطار كان نصيب حزب العمال الشيوعي التونسي (ومنظمته اتحاد الشباب) بوصفه قوة الرفض الديمقراطية الأولى للهجوم الفاشي كبيرا ولو أن حزب العمال كان دوما هدفا للقمع الفاشي حتى في سنوات "الفجوة" وقد بدأ مسلسل القمع بإيقاف جريدة "البديل" لسانه المركزي، ومحاكمة المسؤولين عنها بعد 6 أشهر من صدور عدد الأول، ليتواصل مع تنظيم محاكمات في المنستير سنة 1991 وتونس وقابس والكاف وباجة وقفصة سنة 1992 وقرمبالية سنة 1993 والقيروان سنوات 1994 و1995 وصفاقس 1994، كما شمل الهجوم القمعي العديد من مناضلي اتحاد الشباب بالجامعة في صفاقس والقيروان وسوسة و9 أفريل بتونس في سنة 1994 واعتقالات 1995 و1996 و1998 و2002... كما لم تسلم من هذا الهجوم المنظمات الانسانية والثقافية والشخصيات الديمقراطية (مثل لجنة الـ18 برئاسة المناضل صالح الحمزاوي)، وأساسا الذين لم ينساقوا وراء السلطة في حملتها الشاملة ضد "الإخوان" ولم يسكتوا عن التعذيب وافتعال القضايا وهضم حقوق الدفاع وأدركوا مبكرا أن الفاشية الدستورية تتخذ من مقاومة الأصولية ذريعة لشنّ هجوم شامل على الحريات دون أن يكون لهم أي وهم حول الطبيعة الرجعية لهذه الأصولية.
إن تركيزنا على انحرافات قيادة الاتحاد منذ المؤتمر 20، لا يعني نظرة عدمية لهذه الفترة النيابية، بل أن ذلك يندرج في إطار رؤيتنا النقدية التقييمية لتاريخ المنظمة وللقيادات والأطراف المتعاقبة، وإن انحراف القيادة لا يعني ضرورة سقوط كل عناصرها وتهافتهم أو خفوت جذوة النضال في هياكلها القاعدية والعديد من إطاراتها التي لم تمسّها بذور الإرتداد. لقد شهدت الفترة النيابية للمؤتمر 20 وخاصة في السنة الجامعية 92/1993 تنظيما لمواجهة جماهيرية فعلية مع السلطة في إطار التصدي لبرنامج إصلاح التعليم الذي أعدّه محمد الشرفي واصبح ساري المفعول، فوقع نسخ البرنامج وتوزيعه على الطلبة وتكوين لجان لدراسته والردّ عليه وتنظيم الندوات حوله، وقد شاركت الجماهير الطلابية بفعالية في التحركات الكبيرة والاجتماعات الحماسية وحلقات النقاش التي أرجعت الحرارة إلى الفضاء الجامعي، وقد توّجت هذه المجهودات بسلسلة إضرابات تركّزت على شعار رفض الفصل 17 من البرنامج الذي يحدد عدد الترسيمات في المرحلة الثانية (التخرطيش) وقد استطاع الاتحاد أن يجمع أكثر من 60 ألف إمضاء في عريضة ترفض هذا الفصل، فلم يكن أمام السلطة إلا أن تراجعت للالتفاق على هذا الرفض الطلابي الذي تضرر من إلغاء إضراب عامّ كان مقررا لشهر مارس 1993، وقد تم هذا الإلغاء بشكل فوقي ودون استشارة أحد، كما أنه جاء على إثر تعليمات صدرت بشكل فردي من خارج الجامعة، وقد خلق هذا القرار جدلا كبيرا داخل قيادة الاتحاد التي عاودها التصدع بعد طرد إلياس مقني عضو المكتب التنفيذي الذي ربط مع السلطة واصبح يدعو علنا لحق "الطلبة الدساترة" في الانضمام للاتحاد، كما اسس تعاونية للطلبة بدعم من السلطة، على أن هذا العضو يعتبر صعوده للمكتب التنفيذي من قبيل السلوكات المقصودة لرموز الانحراف اليميني لأنه كان عنصرا مشبوها منذ البداية، وقد تطور التصدع داخل قيادة الاتحاد مع ظهور ما سمّي وقتها بـ"جبهة العمل الديمقراطي" التي ترأسها عبد الرحمان الهذلي ثم "مجموعة الستة" و"مجموعة الخمسة" وكلهم من أعضاء المكتب التنفيذي، وإن كانت كلها في جانب كبير منها ردود أفعال على واقع الاتحاد وأخطاء قيادته، فإنها اتخذت وجهة مرضيّة مشبوهة تجلّت في تخريب التحركات الطلابية بوصفها "موظفة حزبيّا" وفي تنظيم الحملات الصحفية والاجتماعات العامة لمهاجمة "اتحاد الشباب الشيوعي التونسي" وفي السكوت المفضوح على همجية السلطة بل والتواطؤ معها، فكانت هذه المبادرات في نهاية المطاف عامل إضعاف للاتحاد والحركة الطلابية ولا تخدم سوى مصلحة الفاشية الدستورية المستكلبة.
VII- المؤتمر 21 أو الانتصار المغدور:
انعقد المؤتمر 21 في نهاية نوفمبر 1993 بكلية الحقوق بتونس في ظل وضعية خاصة جدا اتسمت بالضغط المتزايد من قبل الدكتاتورية لفرض عناصر دستورية في قيادة المنظمة إلى درجة أن السلطة لم توافق على انجاز المؤتمر وعلى توفير كلية الحقوق لذلك إلا في آخر لحظة (ساعات قبل انطلاقه الذي تأجل بيوم) وبعد أن بدأ بعض المناضلين يفكّر في تجاوز موافقة السلطة وانجاز المؤتمر في الساحة وإيكال مهمة إعداد اللوائح والمقررات للهيئة الإدارية المقبلة.
إذن انعقد المؤتمر في ظرف قلّما عرفته المنظمة والبلاد، لكن افتتاح المؤتمر يعكس حرصا على المقاومة والصمود بتواجد وفود طلابية عالمية مثل الاتحاد العالمي للطلاب والاتحاد العام لطلبة فرنسا كما حضر ممثلو الحركة الديمقراطية والتقدمية وأحيت "مجموعة البحث الموسيقي" بقابس حفلا فنّيا رائعا رغم أن بعض عناصرها مازال يقضي أحكاما قهرية بالسجن. وفي كلمات الافتتاح تناول حبيب الرزقي عضو المكتب التنفيذي و"زعيم مجموعة الستة" المتكتلة داخل المكتب التنفيذي مباشرة بعد المؤتمر 20، الكلمة ليهاجم قيادة الاتحاد واصفا إياها "بالعجز" و"التوظيف السياسي والحزبي" مظهرا استعداده لوضع يده في يد السلطة في سبيل ضرب اتحاد الشباب وحزب العمال الشيوعي التونسي مكررا سمفونية أسلافه منذ المؤتمر 19. إن مثل هذه التقليعات لا تخدم في الحقيقة إلا أعداء الحركة من السلطة وأذنابها والعناصر المشبوهة التي كانت دائما تتربص بالاتحاد وتحيك الدسائس ضده وترتشي قياداته وتربط لهم قنوات مع صناع القرار من البوليس السياسي لمزيد إرباكهم وتحييدهم عن القضايا الأساسية، وفعلا لقد كانت كل الانحرافـات سواءا اليمينية أو اليسراوية تلعب دور الاحتياطي للسلطة وخدمها، لأن هذه الانحرافات تضرب في الصميم الهوية النضالية للحركة الطلابية وتلهيها عن خوض المعارك الجوهرية للطلبة والشعب، معارك الحقوق المادية والمعنوية لأبناء الشعب ومعارك الحريات والديمقراطية والانخراط في نضال الشعب الكادح من أجل الغد الأفضل ومساندة القضايا العادلة قوميا وأمميّا، إن هذا الأمر يؤكده تاريخ الحركة الطلابية التونسية كما يؤكده ماضي وحاضر كل الحركات السياسية والاجتماعية والثقافية... في تونس والعالم. إن تاريخ الشعوب كان دوما وأبدا تاريخ الصراع بين الثوري الأصيل من جهة والرجعي المتخلف مهما كان لونه أو شعاراته أو خلفياته يمينيا كان أو يسراويا والذي يظل دائما طابورا خامسا واحتياطيا في خدمة الطبقات الأكثر رجعية في المجتمعات.
إذن، انطلق المؤتمر 21 في جوّ من التوتر والاحتقان وكان البوليس السياسي في الخارج يطوّق الكلية وسد كل الطرق المؤدية لها، يخطف الطلبة ويعتدي بالضرب عليهم مفتّشا ملابسهم وحوائجهم سائلا عن اجواء المؤتمر وعن فحوى لوائحه...
داخل قاعة الأشغال، كان المؤتمرون يعبّرون عن تمسكهم بمكاسب الحركة الطلابية ورفضهم "لطلبة التجمّع" الذين حسمت فيهم الحركة منذ فيفري 1972، كما عبّروا عن استعدادهم للنضال من أجل الحقوق المادية والمعنوية للجماهير الطلابية، وعن مساندتهم لنضال الشعب التونسي وقواه الثورية والتقدمية من أجل الحرية السياسية والغد الأفضل لطبقاته الكادحة والمفقّرة، مؤكدين الموقف التاريخي المبدئي للحركة الطلابية التونسية في مساندة القضايا القومية والعالمية العادلة.
قد كان جانب من الجهد المبذول في المؤتمر 21 يهدف إلى تصحيح انحرافات المؤتمر 20 وبعض سلوكات القيادة المنبثقة عنه، والتي نقول بشأنها وللأمانة التاريخية أن اتحاد الشباب الشيوعي التونسي يتحمل مسؤوليته كاملة عمّا صدر من بعض مناضليه من انحرافات وأخطاء وثغرات في الرؤية والممارسة، إننا وإن كنّا نتحمّل جانبا كبيرا من المسؤولية في مقاربتنا النقدية (خاصة للمؤتمر 20 وما بعده) لرمز التكتّل وأتباعه، فإن هؤلاء كانوا في تلك الفترة مناضلين في اتحاد الشباب وحزب العمال (م. ك. هو أحد الوجوه التاريخية لحزبنا)، لكن كانت عندهم انحرافات عن خط الحزب واتحاد الشباب أدت إلى محاولة التكتل والطرد في أواخر 1993. إن اتحاد الشباب ورغم تفطّنه في الابّان لانحرافات بعض مناضليه، فإنه لم يقدر على نقد هذه السلوكات وتقديم نقده الذاتي بصورة علنية (عن اللائحة النقابية للمؤتمر 20، عن البرقية لبن علي في المجلس الوطني لسنة 1992، إلغاء الإضرابات العامة...) وربما ساهمت الظروف الأمنيّة والسياسية العامة التي عرفتها البلاد منذ سنة 1991 في الحيلولة دون ذلك، لكن داخليا كانت الانحرافات والثغرات تناقش في الإبّان ونذكر هنا أننا أصدرنا نصّا داخليا في أكتوبر 1992 بعنوان "ملاحظات تقييمية حول تجربتنا في القطاع الطلابي" على إثر إرسال البرقية لبن علي في المجلس الوطني المنعقد بالمنستير في تلك الصائفة(انظر الملحق). وقد وقف هذا النص على مجمل الانحرافات التي شابت سلوك مناضلينا منذ المؤتمر 20 خاصة. لكن لا بد من الإشارة هنا بوضوح أنه في تلك السنوات الصعبة كانت "وراء الأكمة" كما يقال، تعتمل عوامل تصدّع و"انشقاق" يميني عبّر عن نفسه بعيْد المؤتمر 21، وكان قائد هذا التوجه الرفيق السابق م.ك. أحد العناصر المؤسسة لحزبنا، إننا هنا لا نقرأ التاريخ بشكل تآمري، بل إن مناضلي اتحاد الشباب يتحملون كامل المسؤولية خاصة فيما يتعلق بعدم إيقاف نزيف التراجعات التي مسّت جزءا من صفوفهم وعدم التدخل لتصحيح الأوضاع في إبّانها رغم المجهودات المبذولة وخاصة قُبيل المؤتمر 21 حيث شهد اتحاد الشباب وعيا نقديا متقدما لامس مواطن الداء ولو أن العلاج كان جزئيا وغير كاف. إننا نهدف هنا إلى تقديم مقاربة تقييمية نقدية تقول الحقيقة، كل الحقيقة، لكن ظروفنا الاستثنائية كانت تقف حائلا دون ذلك والمستقبل وحده كفيل بتوضيح ما خفي ولو أن قطاعا هاما من المناضلين والجماهير الطلابية أدرك بالتجربة الملموسة حقيقة الأوضاع، ووقف على قيمة الدور الذي لعبه مناضلو اتحاد الشباب في صون استقلالية المنظة، والدفاع عن الوحدة الكفاحية للحركة وعن خطها النضالي الراديكالي.
إذن كانت لوائح المؤتمر 21 وتوصياته تهدف إلى تصويب الرماية وتصحيح الانحرافات السابقة، كما عمل النواب على فرض انتخاب القيادة المنبثقة عن المؤتمر التي أرادوها مناضلة وفي مستوى تحديـات المرحلة وأيضا ممثلة لكـافة الأطراف الطلابية حسب حجم تواجدها داخل المؤتمر. وهو سلوك سليم يهدف إلى تجاوز الوضعية "الاستثنائية" التي أقرّها المؤتمر 20 في انتخاب قيادته بعقلية كواليسية لم تنبني على برنامج نقابي وسياسي بل على قسمة للمقاعد أتاحت فرصة أمام عناصر انتهازية مشبوهة (إلياس مقني، حبيب الزرقي، أبو العلاء غوّار...) أتت لتخرّب نضال المنظمة والجماهير وهو ما أكد عليه نواب المؤتمر الذين تشبثوا بكون القيادة المنبثقة عن المؤتمر 21 يجب أن تستثني العناصر التي أثبتت انتهازيتها وتواطؤها مع السلطة مثل حبيب الرزقي وماهر بن عثمان... وهو ما لم يرُق للعناصر العائدة في المؤتمر 20 التي آثرت الانسحاب من جديد (الوطج...) بعد أن حاولت الابتزاز. إلا أن إرادة المؤتمر أقوى، فتمت صياغة لوائح وتوصيات تعكس فعليا تحديات المرحلة من حيث التجذّر والوضوح. كما تم إفراز قيادة تضمّ أبرز إطارات الحركة رغم وجود بعض العناصر المترهّلة والتي لم تكن في مستوى التحديات المطروحة (نوفل الزيادي، عبد القادر الحمدوني...) وقد رأت السلطة في قيادة المنظمة ولوائح المؤتمر تحديا لها، فثارت حفيظتها وأعلنت عدم استعدادها للاعتراف بـ"قيادة حزبية فئوية" لتتحوّل الفاشية بقدر قادر إلى "مدافع" عن تمثيل كل الأطراف في المنظمة نابذة "الهيمنة والاحتواء" وهي التي تمارس كل ذلك بالقمع والقهر على طول البلاد وعرضها، وشنّها حملة صحفية كبيرة "دفاعا عن الاستقلالية والديمقراطية الزائفة" وشرّكت فيها زعيم ديكورها محمد مواعدة الذي تحوّل إلى مرشد للحركة الطلابية وواعظا للا.ع.ط.ت متدخلا بشكل سافر في حياته الداخلية وفي اختيارات سطّرها مناضلوه. وفي الجامعة كان الحبيب الرزقي يقوم بدوره لمزيد محاصرة قيادة المنظمة وإنهاكها فتعددت مقالاته التحريضية التي أردفها بتقديم شكوى لوزارة الداخلية فقضية في المحكمة الإدارية منتظرا يوم 21 مارس 1994 كما كان يقول لحلّ قيادة الاتحاد والدعوة لمؤتمر استثنائي علما وأن 21 مارس يوافق اليوم الموالي "للانتخابات" الرئاسية والتشريعية، أي اليوم الأول من "المدة النيابية" الجديدة لبن علي، كما بدأ في تشكيل "هياكل نقابية مؤقتة" مزعومة جمع فيها بعض الشتات الموالي له، وقد فتحت السلطة للرزقي أبواب الكليات والأحياء الجـامعية (منوبة، القيروان، صفاقس...) ليُتمّ المهمة على احسن وجه وهي شتم حزب العمال والافتراء عليه (؟؟) وقد فتح هذا السلوك التخريبي المشبوه أمام السلطة الباب للتدخل في الشؤون الداخلية للمنظمة الطلابية. وعوض أن ترى قيادة الاتحاد في هذا الهجوم المسعور دلالة ضمنيّة على صحة تكتيكها، ارتجّت أمام الحملة وأصابها الذعر والاحباط ففتحت آذانها لنصائح "شيوخ الحركة الديمقراطية ومفتييها" بضروة تفادي "الانقلاب" والاسراع بمعالجة "الأخطاء الحاصلة" واصلاح "الخطوات المتسرعة والانعزالية" فباتت تلك العناصر تعبّر عن نوع من الندم وتقول ذلك في الصحافة لإسماع السلطة، ووصل بها الانهيار حد الاستعداد لتعويض بعض عناصر القيادة بعناصر انتهازية غصبا عن اختيارات المؤتمر كسلطة عليا في المنظمة، لكن مشروعهم لم يمرّ باعتبار المقاومة المبدئية التي اعترضت الجماعة من داخل قيادة المنظمة وهياكلها الوسطى والقاعدية، أو من داخل القواعد الطلابية، إذ تصدى شقّ راديكالي في قيادة الاتحاد لهجوم السلطة وفضح مراميها، وكشف انتهازية أعضاء المكتب التنفيذي المطرودين من اتحاد الشباب الشيوعي التونسي، فيما واصلت الحركة الطلابية بقيادة مناضليها الحقيقيين التجند أكثر لمواجهة "برنامج اصلاح التعليم" الذي بدأت تظهر نتائجه الكارثية، فكانت التحركات الجماهيرية في كلية 9 أفريل والحقوق بتونس والآداب بسوسة والآداب بالقيروان... والتي أعادت للجماهير الثقة في النضال وجدوى الضغط القاعدي لنيل المطالب والمكاسب، وقد كان بإمكان هذه التحركات لو شملت أغلب الأجزاء الجامعية وتجنّدت لها بعض القوى المعطلة (كتلة، وطج...) أن تحدث منعرجا حاسما في حياة المنظمة وهي التي واجهت بجرأة مشاريع السلطة وخلقت رجّة في أوساطها، إلا أنها غُدرت من قبل يمين قيادة المنظمة التي وصفها بـ"اليسراوية" و"التطرف" و"اللاواقعية" فأفقد بذلك حركة الاحتجاج كل معنى نضالي باعتبارها "تشوّش" العلاقة مع السلطة و"تستفزها" فتجنح أكثر للقمع (؟؟) كما غُدر النضال الطلابي من طرف محترفي الجملة الثورية الذين وقفوا ضد هذه التحركات التي اعتبروها مجرد رد على "تصعيد السلطة مع حزب العمال"، وكان أن ترجمت السلطة هذا الغدر إلى هجوم قمعي شرس على العناصر الراديكالية داخل الحركة الطلابية فـأوقفت يوم 1 نوفمبر الرفيق نجيب البكوشي عضو المكتب الفدرالي بكلية الآداب والعلوم الانسانية 9 أفريل بتونس بعد تملص عضو المكتب التنفيذي بوبكر الطاهري وعضوا المكتب الفيدرالي ماهر بن عثمان وشوقي الحواص من الاجتماع الذي دعا له الرفيق معلنين انه لا يلزم الاتحاد، وقد كلفه هذا الغدر 3 سنوات سجنا و3 سنوات مراقبة إدارية. كما حاكمت 11 طالبا من الحقوق والآداب سوسة بمعية عضو المكتب التنفيذي الطاهر قرقورة، وهاجمت بوحشية كبيرة يوم 1 نوفمبر 1994 طلبة كلية الآداب بالقيروان الذين كانوا بصدد الاعتصام في ساحة الكلية احتجاجا على برنامج اصلاح التعليم مستعملة كل فرقها وأدواتها القمعية (هراوات، قنابل مسيلة للدموع، خيول، كلاب...) وانتهت هذه الهجمة بمحاكمة 34 طالبا وطالبة منهم المناضلين (توفيق سليماني، على السالمي، سمير طعم الله، الفاهم بوكدوس، علي الجلولي، جمال التليلي، الأمجد الجملي، حبيب مادي، الصادق السعدي، صديق الفرشيشي، معمر الجلّيبي، خالد الكسّابي، عبد الكريم القطاري، منجي الخضراوي، ساسي خصخوصي، توفيق العيادي، مبروك الزيتوني...) وقد قضّت المناضلتان عفاف بالناصر ونجوى الرزقي سنتين و4 أشهر سجنا، فكانتا بذلك أول معتقلتين تقضيان هذا الحكم في تاريخ المنظمة الطلابية واليسار.
وقد كانت هذه الأحداث مؤشرا على حملة قمعية جديدة ضد الحركة الطلابية والحركة التقدمية عموما بالبلاد وعلى رأسها حزب العمال الشيوعي التونسي واتحاد الشباب الشيوعي التونسي فكانت محاكمة الرفاق والمناضلين حمة الهمامي وعلي البعزاوي ومحمد الهادي ساسي وشبيل الجلاّد وشفيق العيادي ومحمد الكيلاني وأحمد الكحلاوي ومنصف المرزوقي وعبد الرحمان الهاني عندما أعلنا نيتهما في الترشح لرئاسية 1994، فضلا عن محاكمة الرفاق الطلبة في صفاقس في مارس / أفريل 1994 (بشير عبيد عضو المكتب التنفيذي للاتحاد، محرز البعزاوي، حسونة بن شريفة، سعيد الجربي...) وقد طالت هذه الحملة أعضاء من المكتب التنفيذي للاتحاد مثل بشير عبيد والطاهر قرقورة، وعاصف اليحياوي زيادة عن هرسلة الباقي وإيقاف أغلب الناشطين من الأجزاء الجامعية وقد كان ردّ فعل أغلب أعضاء قيـادة الاتحـاد وعوضا عن المقاومة وخوض المعارك النضالية والارتقاء بها، خيّروا خيانتها، فراحوا ينددون بنضال الطلاب ويعلنون أن ذلك خارج عن إرادة الاتحاد الذي يرفض "الزجّ به في معارك تتجاوزه" وأن الاضرابات هي "بتعليمات من حزب العمال" في إطار "صراع مفتوح مع السلطة" فسلّموا نجيب البكوشي للبوليس ونددوا بحركة طلبة القيروان علنيّا (تدخل نوفل الزيادي في كلية الحقوق بتونس في أواسط نوفمبر 1994) وتخلّوا عن قضية "رفاقهم" في قيادة الاتحاد يمن فيهم الموالين لهم (عاصف اليحياوي) وبذلك تحولت هذه المجموعة المطرودة حديثا من اتحاد الشباب إلى احتياطي للفاشية ورجال مطافئ وعدوّ معلن للنضال الطلابي، وساهموا إلى حد بعيد في "تبريك" الحركة والقضاء على مؤشرات عودة الصحوة النضالية، لكن الحركة الطلابية، الحبّالة والولاّدة والمتجددة على الدوام فوتت عليهم مرة أخرى فرصة التربص بالحركة، فكانت السنة الجامعية 95/1996 مع موعد آخر لرفض هجمة السلطة وخيانة الانتهازيين وخاصة بمناسبة انتخابات مجالس الكليات التي دعا اتحاد الشباب وحلفاؤه إلى مقاطعتها بشكل نشيط باعتبار التكتيك الانتخابي ليس جامدا وكلّي الوجهة (مشاركة دائمة أو مقاطعة دائمة) بل هو يتراوح بين المشاركة والمقاطعة، وكثيرا ما يكون في تغيير التكتيك تكبير في حجم الاحتجاج وإعلاء لشأن الرفض، خاصة إذا عرفنا الجانب الشكلي لهذه الانتخابات وللهياكل المنبثقة عنها، فضلا عن الظروف التي تجري فيها والتي كانت سنتها غاية في السوء موضوعيا وذاتيا، إذ انحسر وجود المنظمة بفعل الهجمة القمعية في بعض الأجزاء بالعاصمة، ومن هذه الزاوية فقط لن يتمكن مناضلو الاتحاد من خوض الانتخابات إلا في بعض الجزاء التي لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة، لذلك جاءت الدعوة للمقاطعة لتقطع مع الحملات الانتخابية السابقة التي كثيرا ما سقطت في الاحتفالية في ظل هيمنة مطلقة للسلطة وطلبتها، وقد هدفت المقاطعة إلى وضع الواقع الانتخابي في حد ذاته موضع إدانة وتشهير، وقد توّجت هذه المقاطعة بأحداث كلية الحقوق يوم 23 نوفمبر 1995 إذ تصدّت جموع الطلاب لاعتداء الدساترة المدعوم بالبوليس الجامعي فردّوهم على اعقابهم ورموا بصناديق الاقتراع وأطردوا الدساترة من الكلية في أجواء حماس نضالي عالي الدرجة وقف منه رموز الكتلة اليمينية موقف المتفرج ثم المندد "بيسراوية إ.ش" و"تطرفه" ونيته في إدخال الجامعة "في أتون العنف الأعمى" أما السلطة الفاشية فكان ردّها قمعيا مرة أخرى بأن نظمت محاكمة جديدة لا.ش.ش.ت طرفها هذه المرة الرفاق عبد المومن بلعانس وعلي الجلولي وبشير عبيد (عضو المكتب التنفيذي) الذين أوقفوا أيام 28-30 نوفمبر 1994 ليتواصل إيقافهم بدهاليز أمن الدولة بوزارة الداخلية قرابة الـ20 يوما ذاقوا فيها أبشع ألوان العذاب والعنف، لكن صمودهم البطولي أحبط هجوم السلطة، علما وان الرفاق الثلاثة كانوا يعيشون في السرية بعد أن صدرت ضدهم أحكام قهرية سابقة بسبب نشاطهم النقابي والسياسي، وقد لاقت قضيتهم تعاطفا ومساندة كبيرة من طرف كل المنظمات السياسية والحقوقية... محليا وعالميا باستثناء قيادة الاتحاد التي اعتبرت الأمر لا يعنيها و"هذه مسألة سياسية لا تدخل في حيّز اهتماماتها" وهي فرصة أخرى كشفت فيها المجموعة جوهرها اليميني الانتهازي المعادي لكل نفس نضالي.
وفي بداية السنة الجامعية 96/1997، بُدأ في التحضير للانتخابات القاعدية للمؤتمر 22 في ظروف قلّما عرفتها المنظمة الطلابية، إذ كان في تلك الأثناء خيرة كوادر الحركة في السجون، والنزر القليل الذي كان خارجها ظل محاصرا ومعرضا بشكل دائم للإيقاف مثل إيقاف بشير عبيد في شهر افريل 1996 (لمدة شهر في سجن صفاقس) لحرمانه من الإشراف على الانتخابات القاعدية باعتباره عضو قيادي في الاتحاد، كما أوقفت السلطة الفاشية 8 من مناضلي وأنصار اتحاد الشباب في شهر أوت 1996 لمدة 12 يوما في مقرات أمن الدولة بوزارة الداخلية حيث تعرضوا للتعذيب الوحشي، وقد لفقت لهم قضية (حفظت فيما بعد) بسبب نشاطهم النقابي في الجامعة وتحضيراتهم للمؤتمر 22 (؟!!!) وهؤلاء المناضلين هم: علي الجلولي، لطفي الهمامي، برهان القاسمي، رجاء شامخ، محمد الطاهر براهمي، كما تم إيقاف محمد الدريدي عضو المكتب التنفيذي للاتحاد، ثم تم إيقاف عبد المومن بلعانس والطاهر قرقورة فيما بعد. كما شهدت الساحة الجامعية في تلك الفترة ركودا قلّما عرفته الجامعة في تاريخها، وعرفت الحركة نفورا من العمل النقابي أثّر بشكل جليّ على توزيع الانخراطات وانجاز الانتخابات الذي تواصل إلى ديسمبر 1996 والذي تم في أجواء جنائزية معزولة، لكن رغم ذلك أصرّ مناضلو المنظمة ومنخرطوها على تفعيلها وانجاز المؤتمر 22 الذي انعقد بعد أكثر من 3 سنوات من المؤتمر 21.
IIX- المؤتمر 22: مقررات مناضلة وقيادة انتهازية:
انعقد المؤتمر 22 بالمركز الثقافي الجامعي الحسين بوزيان أيام 31 جانفي و1-2-3 فيفري 1997 بعد أن جرت الانتخابات القاعدية في ظروف قاسية جعلت من الاتحاد منظمة قانونية شكلا وغير معترف بها وبأنشطتها فعلا، حيث عززت السلطة حضور أجهزتها القمعية داخل الكليات والأحياء الجامعية، كما لم يتردد العمداء ومديرو المعاهد العليا في التحول إلى جزء من هذه الأجهزة القمعية بمصادرة حق التعليق ومنع حق الاجتماع وعقد مجالس التأديب وإصدار قرارات منافية لطبيعة مهامّهم ومنافية للقانون مثل منع المناضلين من دخول الكليات وحرمان الطلبة المحاكمين من حقهم في التسجيل وتقديم قوائم في أسماء المناضلين للأجهزة البوليسية بغية إيقافهم أو منعهم من الدخول أيام الإضرابات، كل هذا كان يتمّ في إطار استراتيجية تعامل مع الاتحاد تهدف إلى تجاهله ورفض محاورته، أي تهميشه، في الوقت الذي كانت ترصد فيه الامكانيات والاعتمادات لدعم "طلبة التجمّع" بهدف إظهارهم كطرف طلابي موجود وفاعل في الساحة وإكسابهم "شرعية" ظلت دائما مفقودة، فباسم الديمقراطية رفضت السلطة التعامل مع الاتحاد، وباسم التمثيلية تجاهلت دوره وعملت على استثنائه وتهميشه، والديمقراطية عندها تشترط تشريك "طلبة التجمع" والتمثيلية لا تعني بالنسبة إليها سوى صفقة تتحصل بموجبها على مقعدين في قيادة المنظمة، لذلك كثفت من قمعها ورفعت وتيرته مستهدفة العناصر الأكثر جرأة على إعلان رفضها لحساباتها، ولئن كان القمع هو القاعدة في التعامل مع اتحاد الطلبة وهو لغة الحوار المعتمدة في مخاطبته، فإن رموز التيار الراديكالي ومناضلي إ.ش كانوا الهدف المباشر لهذا القمع بهدف الحد من تأثيرهم والتقليص من حضورهم وإشعاعهم وانتشارهم. ولم تر السلطة من حرج في انتقاء ضحاياها وفرزهم للعب على التوازنات وتغليب الشق "المعتدل" على "المتصلّب"، فعطّلت انجاز الانتخابات في أجـزاء القيروان والحقوق II، وسمحت بـإجرائها في أخرى وضيّقت الخنـاق على عناصر من القيادة وقيّدت كل هامش لهم في التحرك في حين غضّت الطرف على البعض الآخر ومكّنته من التنقل ودخول الأجزاء الجامعية، كل ذلك طمعا في إضعاف التيار الراديكالي وتقليص فرص حظوظ فوزه في الانتخابت والتأثير على مجرى وتوجهات المؤتمر، فعمدت إلى إيقاف بشير عبيد عضو المكتب التنفيذي ولم تطلق سراحه إلا بعد انتهاء الانتخابات وفرضت بوجه غير قانوني على الطاهر قرقورة اجراءات تحرمه من حقه في دخول الكليات وصادرت حقه في متابعة الانتخابات وحضور الجلسات العامة والاشراف على الانتخابات، في حين لم يتعرّض بقية الأعضاء إلى نفس المضايقات (مع وجود بعض الاستثناءات العارضة والمحدودة)، وفي الأجزاء الجامعية ضربت مراقبة شديدة على العناصر المعروفة بعلاقتها باتحاد الشباب والأطراف المناضلة بهدف إرباكها وعزلها عن جمهورها، فكان إيقاف المناضل منذر الذيب كاتب عامّ المكتب الفدرالي بكلية الحقوق أريانة، عيّنة إضافية على حرص السلط على تصفية كل الأنفاس التقدمية فحاكمته في قضيتين متتاليتين وحرمته من انجاز امتحاناته وعطّلت إجراء الانتخابات القاعدية في الكلية (الحقوق II) وبذلك كشفت السلطة عمّ تريده من هذا المؤتمر فهي تريد مؤتمرا قزما يأتي على مكاسب الحركة ويلغي دور أطرافها المناضلة ويفرز قيادة "معتدلة" تستجيب لإرادتها كخطوة في اتجاه إعادة افتكاك المنظمة.
كان من المفروض أن ينعقد المؤتمر بكلية الآداب 9 افريل ، لكن سلطة الإشراف خيّرت المكتب التنفيذي بين عقد المؤتمر بالمبيت الجامعي العمران الأعلى على بعد عدة أمتار من منطقة الشرطة أو بالمركز الثقافي حسين بوزيان قبالة مقرات وزارة الداخلية قبل أن يتبين أن هناك اتفاق بين الوزارة وأغلب العناصر اليمينية المتربعة على رأس الاتحاد وزعيمها من خارج الاتحاد (محمد الكيلاني) على اختيار المكان الثاني، وتم افتتاح المؤتمر بعد يوم من التاريخ المحدد بعد منع عقده بكلية الآداب 9 أفريل من قبل البوليس وإيقاف نوفل الزيادي وطاهر قرقورة من أمام الكلية التي كانت لحظتها (30 جانفي) في حالة غليان إذ شهدت تحركا شارك فيه آلاف الطلبة مطالبين بانجاز المؤتمر هناك، في حين كانت اسوار الكلية محاصرة من قبل المئات من أعوان القمع بمختلف فرقهم وأجهزتهم (خيّالة، دراجات نارية، سيارات...)، لكن صفقات اليمين الطلابي حالت دون ذلك ووجهت طعنة أخرى في ظهر الحركة والاتحاد، وهو ما سيتأكد أكثر في أشغال المؤتمر الذي انطلق بفضيحة محاولة منع الأطراف السياسية (إ.ش أساسا) من تعليق نصوصها في الساحة وفي قاعة الافتتاح، وهو دور مكمّل لدور البوليس الذي كان يراقب المداخل المؤدية لمكان انعقاده يوقف ويفتّش، فـي حين كانت العناصر الانتهازية تحاول السيطرة على المؤتمر وتوجيهه الوجهة اليمينية التي تريد، وجاء أول حدث عرفته ساحة الحسين بوزيان بقيام هذه العناصر -باسم الاتحاد- بإزالة معلقات حائطية تحمل إمضاءات إ.ش.ش.ت، والمكتب الفيديرالي بكلية الآداب القيروان يحيّي فيها مساجين الحركة الطلابية، إلا أن مناضلي المنظمة أفشلوا فعلتهم هذه. أما الحدث الثاني فتمثل في محاولة عدم قبول نواب كلية الآداب بالقيروان والحقوق II بأريانة، اللذين عُطّلت فيهما الانتخابات، في حين أن آخر هيئة إدارية قبل المؤتمر دعت إلى القيام بالانتخابات بكلية القيروان بكل الطرق الممكنة ولو كان ذلك في السرية أو عن طريق عريضة يمضيها المنخرطون بعد أن لمست مدى شراسة الإدارة هناك (وخاصة العميدة ليلى الرمّاح) وحرصها على تعطيل الانتخابات، وبعد صراع طويل (دام يوما كاملا) منيت العناصر اليمينية بهزيمة جديدة حيث تم قبول النواب المعترض عليهم بعد أن تم فرض 3 نواب عن العلوم ببنزرت لم يقوموا بأي محاولة لإجراء الانتخابات هناك ليتواصل المؤتمر وتتواصل معه هزائم الانتهازيين فلم يتم قبول التقرير المالي إلا بأغلبية بسيطة (أقل من نصف المؤتمرين باعتبار المحتفظين بأصواتهم) وتم رفض التقرير الأدبي وهو ما لم يحصل بالمرة منذ عودة الاتحاد للنشاط القانوني، كما رفضت كل لوائحهم المقدمة ما عدا اللائحة السياسية التي كادت تُرفض بدورها لو حصل الاتفاق بين إ.ش والوطج على حذف اسطر تتحدث عن توظيف حزب العمال للاتحاد، وذلك في لائحة عامة موازية. كما تمّ الإقرار الجماعي للائحة حول التطبيع تدين النظام التونسي بوضوح، هذا الموضوع الذي كان الانتهازيون يتلافون التطرق إليه باعتباره "محرجـا للسلطة" وعلى لائحة أخرى حـول الطلبة الدسـاترة تعتبرهم مخبرين ووشاة وتدعو لعدم قبولهم في الاتحاد، وقد تردد الانتهازيون كثيرا قبل التصويت لها.
ولم تتنفس المجموعة الانتهازية الصعداء إلا في أواخر المؤتمر وقُبيل انتخاب المكتب التنفيذي الجديد، بعد أن عقدوا تحالفا انتهازيا مع العناصر المنسحبة في المؤتمر 21 (الوطج) لعزل العناصر الراديكالية (إ.ش...) الذين اختاروا بدورهم عدم الترشح للمكتب التنفيذي بعد أن رفضوا أن يكون دورهم شكليا داخل قيادة الاتحاد ودونوا في الحال عريضة أمضى عليها 34 نائبا من جملة 98، فضحوا فيها التحالف الانتهازي وعبّروا عن اعترافهم بالقيادة الجديدة وحرصهم على مواصلة النضال داخل هذه المنظمة المجيدة، لذلك شكّلوا عصب الاتحاد وقلبه النابض في كل التحركات النضالية اللاحقة خاصة بعد إطلاق سراح بقية المساجين (طلبة القيروان، نجيب البكوشي...) فكانت بداية السنة الجامعية 97/1998 بداية ساخنة انطلق بإضراب الجوع الذي قام به قدماء المساجين من أجل حقهم في التسجيل، إلى خوض النضالات القاعدية والاضرابات الجماهيرية مما جعلهم عرضة لحملة قمعية شرسة انطلقت يوم 18 فيفري 1998 شملت 15 طالبا وطالبة. مقابل المدّ النضالي القاعدي دشن المكتب التنفيذي الجديد والصاعد على اساس تحالف اتنهازي، نشاطه ببعث برقية لبن علي (يومين بعد المؤتمر)، يشكره فيها على "تحسسه لمشاغل الطلاب ودعمه للمؤتمر 22"، ثم أردفها ببرقية ثانية على إثر التعديل الطفيف على الزيادات المهولة في معاليم الترسيم والخدمات الجامعية تشكر بن علي على "هذه الإجراءات التي خففت من العبء على الطلبة وعائلاتهم". وتحت ضغط المناضلين الحقيقيين في الاتحاد، تصدع التحالف الهش داخل المكتب التنفيذي الذي اصبح، 6 أشهر بعد انتخابه، مصابا بشلل تام وعاجز على القيام إلا بما تمليه عليه السلطة أو تسمح له به. لقد عبّرت الأطراف السياسية المناضلة عن رفضها لهذه الانهيارات التي كانت البرقيات إحدى علاماتهما، واصدر إ.ش بيانات في الغرض، كما أصدر 5 من أعضاء المكتب التنفيذي (عبد الناصر عويني، عثمان قوادر، حاتم العويني، نعمان الباجي، محمد الزغلامي) بيانا يرفض البرقية الثانية ويعلن التمسك بلوائح ومقررات المؤتمر، كما كانت التحركات الجماهيرية للطلبة أهم ردّ على برقيات الولاء والتأييد إذ عرفت أهمّ الكليات اجتماعات عامة وإضرابات ومصادمات مع البوليس طيلة أشهر نوفمبر -ديسمبر 1997 وجانفي -فيفري 1998، وقد بدأت التحركات من كلية 9 أفريل حيث تدخل البوليس لتفريق اجتماع عام يوم 24 أكتوبر 1997 احتجاجا على قرار وزير التعليم العالي (الدالي الجازي) بمنع الاجتماعات العامة لمدة 15 يوما بداية من 20 أكتوبر "حتى لا تفسد احتفالات الطغمة النوفمبرية بالذكرى العاشرة لانقلابها"، وقد كان تدخل البوليس قمعيا إذ قفز عديد الطلبة من النوافذ فسجّلت حالات إغماء وإصابات خطيرة استوجبت تدخل سيارات الإسعاف، كما كان إضراب 10 ديسمبر 1997 (اضراب جزئي بتونس العاصمة) بداية لسلسلة من الاضرابات لوّح فيها الطلبة بمقاطعة امتحانات جانفي، كما خرج طلبة 9 أفريل بالآلاف إلى الشارع رافعين شعارات مناهضة للسلطة كما عرفت كليات الآداب القيروان وسوسة تحركات ضخمة تدخل فيها البوليس بوحشية (إيقافات، تعنيف...) كما كانت انتخابات المجالس العلمية ليوم 2 ديسمبر فرصة أخرى انتصرت فيها قوائم الاتحاد (المتباينة في أغلبها مع العناصر اليمينية) في أهمّ الأجزاء، وقد رفض مناضلو الحركة الدخول في قوائم تسمّى "صوت الطالب" التي قررها المكتب التنفيذي "ومن لا يلتزم بذلك يقع سحب انخراطه وعضويته" وهو قرار لم يجد أي صدى. وعلى عكس الحيوية التي فرضها المناضلون الراديكاليون، سجل عناصر الكتلة اليمينية غيابهم التام في هذه المحطة إذ لم يقدّموا قوائم في معهد الشغل والفنون الجميلة والعلوم ببنزرت بدعوى "عدم وجود مناضلين" وهم الذين يجدون "مناضلين" سبّاقين في تزكية قرارات التجميد والطرد التي تحصل في الهيئات الإدارية الصورية، حتى أن الأمين العامّ عاصف اليحياوي لم يتمكن من تقديم قائمة في كليته "معهد الصحافة" والتي تمثل في حدّ ذاتها سابقة، وبتطليق الساحات اهتمت القيادة الانتهازية بعقد هيئات إدارية صورية أطردت بموجبها أعضاء المكتب التنفيذي غير المتناغمين معها: عبد الناصر عويني وعثمان قوادر وعبد الكريم المومني وحاتم العويني ومنصف القمري.
1- رغم التراجع المقاومة تستمرّ:
كما أن ورقة التوت سقطت تماما بأن لعبت عناصر الكتلة اليمينية أقذر الأدوار وذلك على الأقل في مناسبتين كبيرتين: الأولى بمناسبة لإضراب الجوع في أكتوبر 1997 والثانية بمناسبة الهجمة القمعية على مناضلي إ.ش. ففي الأولى دخل الرفاق سمير طعم الله ونجيب البكوشي وفاهم بوكدوس ونجوى الرزقي في إضراب جوع دفاعا عن حقهم في الترسيم والعودة لمقاعد الدرس بعد خروجهم من السجن في فيفري 1997، وبعد رفض وزارة الإشراف تمكينهم من هذا الحقّ دونا عن بقية قدماء المساجين بدعوى "أنهم عناصر متطرفة ومتحزّبة لا حقّ لها في الدراسة" وقد لاقى هذا الإضراب الذي وقع إعلانه في المقر المركزي للاتحاد مساندة كبيرة من طرف كل الأطراف السياسية بالجامعة وكل أطراف الحركة الديمقراطية بالداخل والخارج، ما عدى الكتلة الانتهازية التي وإن ناصر بعض قواعدها في اليوم الأول الاضراب وأمضوا على العرائض ورسائل المساندة فإنهم انخرطوا في اليوم الثاني بعد أن اتصلت بهم السلط ولامتهم على تلك المساندة في فتوى مناهضة الإضراب ومسانديه واعتبروا الإضراب يعود لـ"غايات سياسية ضيقة" بهدف "إحراج السلطة قبل زيارة بن علي لفرنسا ووصول بعثة من الاتحاد الأوروبي لتحقق في وضع الحريات في تونس" و "هذا لن يفيد إلا الإخوان"... وانساقوا في حملة افتراء وتشويه لدى الأحزاب والمنظمات، ووصلوا إلى حد محاولة تعنيف المضربين ومسانديهم، كما حرّضوا عمداء الكليات على منع عقد الاجتماعات العامة إلا بإذن من الأمين العامّ (؟!) كما قاموا بتمزيق بيان المكتب التنفيذي المساند للاضراب (مجموعة الوطج) ومرروا المعطيات الكاذبة حول أن المضربين يرفضون الترسيمات التي تحصلوا عليها منذ الأيام الأولى، لكن حصول الرفاق على الترسيمات بعد 16 يوما من الإضراب كان صفعة قوية لهم ولأذنابهم ولأدوارهم الخسيسة المتمثلة في ضرب مواطن قوة الحركة والسعي إلى إجهاضها، وهكذا جمعت مجموعة الكتلة الانتهازية الأرذل والأعفن في مواقف وممارسات كل الأرهاط الانتهازية التي مرّت في تاريخ الحركة الطلابية من كذب وتشويه وغطرسة وتواطؤ مع السلطة والبوليس.
كما كانت اعتقالات فيفري/مارس 1998 فرصة أخرى لمزيد انكشاف الجوهر الحقيقي لهذه المجموعة، إذ شنّ البوليس السياسي بداية من يوم الأربعاء 18 فيفري جملة اعتقالات واسعة شملت نقابيين وناشطين في الحركة الطلابية من مناضلي وأنصار إ.ش في كليات العاصمة والقيروان (نجيب البكوشب، علي الجلولي، لطفي الهمامي، طه ساسي، قيس ورضا الوسلاتي، جلال بوراوي، هيكل المناعي، رشيد الطرابلسي، نور الدين بن تيشة، عفاف بوروينة، إيمان درويش، حبيب حسني، سمير طعم الله، الفاهم بوكدوس) أين تعرضوا في مقرات وزارة الداخلية إلى أبشع ألوان التعذيب (تعليق، صعق بالكهرباء...) ولفّقت لهم تهم "أرهابية" تصل أحكامها إلى 23 سنة سجنا (؟!) ليودعوا في السجن ويحاكموا في ماي-جوان-جويلية-أوت 1999، وقد جاءت هذه الحملة إثر تنامي الغضب الطلابي وتقدم نسقه احتجاجا على تدهور الأوضاع الجامعية (الزيادة في معاليم الترسيم والخدمات الجامعية، انتداب الأساتذة عبر الاختبار النفسي-التقني...) وهو ما أفزع السلطة، وقد بررت السلطة هجومها القمعي بأنها "حرب ضد إ.ش وح.ع" مقحمة في ذلك شخصيات سياسية ونقابية وحقوقية (الرفيق حمة الهمامي، عبد المجيد الصحراوي، الشاذلي الهمامي، برهان القاسمي، هندة عروة، عبد الجبار المدوري، راضية النصراوي)، إلا أن ما حاولت أن توهم به قد رُدّ عليها من قبل كل الملاحظين خاصة وأن حملتها القمعية شملت عناصر جماهيرية أثبتت شعبيتها في الوسط الطلابي وصاغت تجربتها النضالية والكفاحية بكل جدية، ولئن عبّرت الأوساط السياسية والنقابية والحقوقية عن رفضها لهجوم السلطة على الحركة الطلابية فإن موقف الكتلة الانتهازية كان مرة أخرى الاستثناء، إذ رددوا أن الحملة الأخيرة هي صراع بين السلطة وإ.ش وهو ما يبرر عدم إصدار بيانات أو عقد اجتماعات... في الغرض وهو ما أكد تورطهم في الأمر خاصة وأنهم روّجوا أخبار إيقاف عناصر لم توقف آنذاك أو لم تقحم أصلا في القضية كما رددوا ما كان يلوكه القنزوعي وحسن عبيد... من أن الإيقافات لا علاقة لها بالجامعة وأن الموقوفين يوزعون بيانات "للإخوان" يسبّون فيها الرئيس وعائلته...إلخ.
إن موقف قيادة الاتحاد ينسجم مع جملة مواقفها السـابقة والتي تشكل عنصرا آخر في اتجاه الفرز الحقيقي بين خندق النضال والصمود وخندق السلطة وأذنابها وخدمها والمتلحّسين على موائدها، وقد سفّه نضال رفاقنا في السجون أحلام الانتهازية ووجه صفعة قوية لكل المراهنين على سقوط خيارت المقاومة والنضال في أوساط شباب تونس وشعبها، وهو ما كرّسه المناضلون الموقوفون بدخولهم في أول إضراب جوع يوم 17 مارس 1998 أسبوعا بعد إيداعهم السجن، وكان إضراب جوع ايام 11 و12 و13 ماي 1998 نقطة تحول حاسمة في وضعية المساجين السياسيين في تونس إذ تمكن رفاقنا لأول مرة في تاريخ تونس من فرض حقّهم في إجراء الامتحانات داخل زنزانات الإيقاف توّجوه بنجاح أغلبهم وحصولهم على شهائدهم داخل السجن (علي الجلولي، لطفي الهمامي، نجيب البكوشي، طه ساسي، إيمان درويش، حبيب حسني) لتتتالى النضالات والملاحم لتحوّل سجون الفاشية إلى مراكز نضال متقدم (اضراب 1-10 ديسمبر 98، إضراب 25 مارس إلى 12 أفريل 1999، إضراب 1-20 أكتوبر 1999 وغيره من الإضرابات الجزئية والفردية فضلا عن أشكال الاحتجاج اليومي الأخرى...)، وقد كان انطلاق المحاكمة يوم 15 ماي 1998 مناسبة جدية لتتحول قاعة الجلسة عدد6 بالمحكمة الابتدائية بتونس إلى منبر حاكم فيه مناضلونا سلطة القهر الفاشي إذ دافعوا بصلابة في جلسة 10 جويلية (جلسة "الاستنطاق") عن مبادئهم الشيوعية وعن اعتزازهم بالنضال في الاتحاد العام لطلبة تونس كما دافعوا عن حقهم في الرأي والتعبير والتنظم، كما كانت جلسة 6 أوت الاستئنافية فرصة أخرى لتأكيد نفس العزم والإصرار لذلك كانت محاكمة الرفاق وبإقرار العديد من المناضلين والملاحظين محطة مضيئة وبارزة في تاريخ نضال اليسار والشباب الطلابي، وهي التي تابعها العديد من الأطراف السياسية والحقوقية في تونس والخارج ما عدا "الرفاق" في قيادة اتحاد الطلبة والتي لم يكلّف الأمين العامّ ولا وفد من القيادة نفسه عناء متابعة المحاكمة، على أنه بالنضال والنضال وحده فرض رفاقنا إطلاق سراحهم إذ أطلق سراح الأغلبية في شهر أوت 1999 (بعد عام ونصف) بمقتضى انتهاء مدد محكومياتهم وفرض الباقي حرّيتهم في شهر نوفمبر 1999 (بمقتضى سراح شرطي) رغم أن الأحكـام وصلت بالنسبة لبقية المـوقوفين 4 و5 سنـوات سجنـا، وبالنسبة للمتغيبين الذين خيّروا العيش في السرية (الرفاق حمة الهمامي وسمير طعم الله وعد الجبار المدوري) وصلت الأحكام بصددهم إلى 9 سنوات و3 أشهر مع النفاذ العاجل.
2- هل سيعلن اليحياوي وعصابته التحاقهم بـ"التجمّع"؟
لقد كان إيقاف الرفاق في فيفري/مارس 1998 مؤشرا لهجوم قمعي على الحركة الطلابية والديمقراطية عموما، لذلك عرفت الجامعة والبلاد حالة من التراجع والاستقالة والرّعب، وفي الوقت الذي كان من المفروض أن تقوم قيادة الاتحاد بدورها في شحذ الهمم والتحضير بردّ الهجوم القمعي، كان أمينها العامّ سيّء الذكر عاصف اليحياوي يتلحّس على موائد أسياده في أروقة وزارة التعليم العالي ليوفي بتعهّداته الخيانية وليوجّه مزيدا من الطعنات لحركة لفظته ولفظت عصابته، فطلعت علينا صحافة السلطة في أواخر شهر أكتوبر (انظر مثلا "الصباح" 31 أكتوبر 1998 /ص2) ببيان مشترك بين وزير التعليم العالي وعاصف اليحياوي جاء ليكشف أكثر ما وصلته انتهازية ويمينية الأمين العام وعصابته الذين انخرطوا في السياسة التعليمية المعادية للطلبة، وشرّعوا القمع والإرهاب الذي تمارسه السلطة على الجامعة، والبيان يهدف إلى تدجين الاتحاد وفتحه أمام طلبة السلطة للإستيلاء عليه، ومقابل هذه الخدمات الجليلة التي عبّر الأمين العام عن تقديمها للفاشية، فإن هذه الأخيرة وعدته بـ"مساعدات مالية" هي عبارة عن رشوة مقابل الخيانة والمتاجرة بمصالح الطلبة وحركتهم، ومما جاء في البيان "المشترك" نقدّم هذه المقتطفات التي تغنينا عن أي تعليق علما وأن إ.ش.ش.ت قد أصدر في الابّان نصّا تحليليا مطوّلا بعنوان "بعد البيان المشترك" بين الوزارة والاتحاد: هل سيعلن اليحياوي وعصابته التحاقهم بـ"التجمّع"؟ (صوت الشعب عدد174، وهذه بعض المقتطفات من البيان "المشترك":
"إن الطرفين يسجّلان بارتياح تحسّن مردودية الجامعة ويدعوان إلى مزيد التفاني في العمل بما يمكّن من تطوير نتائج الطلبة كمّا وكيفا". إن هذا التقييم للسياسة التعليمة لا يعبّر في شيء عن مواقف الاتحاد، بل هو جدير بالشُّعب الدستورية وأحزاب وجمعيات الديكور.
ومما جاء في البيان أيضا "يؤكد الطرفـان أن الدرس حقّ وجب الدفـاع عنه وصيانته ومزيد العمل على توفير شروط ممارسته المادي منها والأدبي كما يدعو الواجب التصدي لكل أساليب منع الدرس من إكراه ولجوء إلى إخراج الطلبة عنوة أو مداهمة القاعات مهما كان الظرف، وفي هذا الاتجاه يلحّ الطرفان على أهمية التحلي بالسلوك الحضاري في الالتزام بنبذ العنف والتعصّب بما يمكّن الجميع من إقامة حوار مسؤول وحوار منظّم"، وهكذا تتبدّل الأدوار، الجلاّد يتحوّل إلى ضحية والضحية إلى جلاّد، كما تحوّل الفاشي الهمجي إلى "متحضّر" يعطي الدروس، والضحية إلى "فوضوي وعدواني ولا مسؤول..." ولم يعد البوليس هو الذي يمارس الإكراه والقمع والمداهمة والعنف، بل الطلبة (؟؟!!) إنه انخراط لا مشروط في تشريع القمع والإرهاب المسلّط على الجامعة ليتحوّل اليحياوي وبطانته إلى مجرّد خدم للفاشية لا أكثر.
ويواصل البيان "يؤكد الطرفان أن الاتحاد العام لطلبة تونس (...) منظمة نقابية طلابية مستقلة، مفتوحة لكل طالب يروم الانخراط فيها على أساس احترام قوانينها وأهدافها العامة بقطع النظر عن معتقده وجنسه ولونه ودون إقصاء أو تهميش لسبب ثقافي أو سياسي..." وهنا لا نتصور أن أحدا يجهل المقصود بهذا الكلام. إن المقصود هو "إرجاع الطلبة الدساترة" للاتحاد لا أكثر ولا أقلّ.
لنواصل.
ولمكافأة اليحياوي وكتلته وعدت الوزارة بـ "تمكين المنظمة (اقرأ الكتلة) من موارد مالية تمكّنها من القيام بأنشطتها الثقافية والفكرية والنقابية داخل الحرم الجامعي أو خارجه ومن المساهمة في النقاش حول المسائل التي تهمّ الحياة الجامعية والشبابية عموما، على أن يتمّ ذلك كله في إطار احترام قوانين البلاد وفي أجواء يسودها الحوار الجدي المسؤول والتسامح بين الطلبة والأساتذة والإدارة" ونحن نقول إنه إرشاء مقابل "خدمات جليلة".
والإرشاء الأخير هو "تنظيم لقاءات بين الممثلين القانونيين لاتحاد الطلبة والعمداء ومديري مؤسسات التعليم العالي ومديري الخدمات الجامعية...". والذي تابع أوضـاع الاتحـاد في سنوات 97 و1998 إلى حدّ الآن يعرف مـا معنى "الممثلين القانونيين للاتحاد" إنهم عناصر الكتلة الانتهازية الذين دلّسوا وزوّروا الانتخابات والذين أقصوا وهمّشوا بقية الأطراف والمناضلين بما فيها عناصر من المكتب التنفيذي ومن الهيئة الإدارية ومن المكاتب الفيدرالية المغضوب عليها (القيروان، الحقوق II...) ليحتكروا "الصفة القانونية" في تعامل الإدارة والسلط معم، وهو دور لائق بهم في ظل اختلال موازين القوى وسقوط وتهافت الكادر النقابي إلى أردإ المستنقعات وتحول التفاوض إلى طريقة للإرشاء والإرتشاء وحلّ المشاكل الخاصة و...
إذن وكما قلنا فقد مثل "البيان المشترك" الذي هو مجرد حلقة في سلسلة الغدر والخيانة، صفعة أخرى للاتحاد والحركة وفرصة أخرى لمزيد تشتيت قواه المنهكة وتصديع هياكله وأطره بما فيها قيادته التي انقسمت إلى قيادتين: ما سمّي بـ"القيادة القانونية" المتكونة من عاصف اليحياوي وعصابته و"القيادة الشرعية" المتكونة من عناصر الوطج الذين "جُرّدوا واُطردوا" بالكامل في هيئات إدارية صورية على أن الخلاف بين الشقين سقط عديد المرات في أشكال تناول لامبدئية (القسمة المالية...) وإن كان في الأصل نتاجا لتحالف انتهازي في المؤتمر 22 يهدف إلى إقصاء إ.ش، فإنه في الحقيقة يعكس وضعا متأزما داخل المنظمة، فإن تهافت اليحياوي وعصابته إلى أردإ المواقف والسلوكات، فإن "القيادة الشرعية" حافظت عموما على الأدنى النضالي مثل رفض برقيات الولاء والتأييد رغم تورط أحد عناصرها في البرقية الأولى (عبد الناصر العويني الذي قدّم نقده الذاتي في أول هيئة إدارية) ومساندتهم لإضراب الجوع في أكتوبر 1997 وانخراط جلّ عناصرهم في التحركات النضالية في بداية السنة الجامعية 97/1998، فإنهم ورغم تراجع مردودهم بعد الحملة القمعية لشهري فيفري/مارس 1998 (لم بنددوا بالحملة) فإنهم عملوا على تأطير التحركات النضالية في نوفمبر /ديسمبر 1999 الخاصة برفض الاختبار النفسي-التقني وخاصة في كلية الحقوق بتونس حيث تمت محاكمة مجموعة من مناضلي الاتحاد (عبد الناصر عويني، ياسين الحمزاوي، عبد الملك صهميم...) وتصدوا لنزيف التراجعات التي يقودها الشق الآخر مثل "البيان المشترك" وعدم انخراط اليحياوي وبطانته في التحركات والإكتفاء بدور المتفرّج، ورغم مجهودات "القيادة الشرعية" فـإنها لم تقدر على تجاوز عوائقها وأمراضها مثل حصر التدخل في الأجزاء الكبرى وأجزاء العاصمة تحديدا وهو ما عملت الكتلة اليمينية على تغطيته بالاتصال بالأجزاء الداخلية والصغرى منها بالأساس لهيكلتها بشكل يضمن الموالاة السياسية وهو أمر كان حاسما في التحضير للمؤتمر 23 والذي دعت مجموعة اليحياوي في "هيئة إدارية" انعقدت في مارس 1999 لانجازه عبر توزيع الانخراطات وانجاز الانتخابات القاعدية بداية من أفريل 1999، لكن مقاطعة الأطراف (القيادة الشرعية، القوميين...) وحالة التراجع التي كانت تمرّ بها الجامعة في تلك الفترة حالت دون ذلك وهو ما وقع تأجيله لمفتتح السنة الجامعية 99/2000 التي ستشهد في بدايتها اطلاق سراح مناضلي إ.ش من السجون وهو ما لخبط أوراق الكتلة اليمينية التي راهنت على حالة الفراغ والتراجع التي تمرّ بها الحركة وانحسار تواجد "القيادة الشرعية" في بعض الأجزاء، فضلا عن مساندة السلطة لهم، وذلك للانقضاض بصفة نهائية على المنظمة واقتسام مواقعها مع "الطلبة الدساترة" على أساس "استحقاقات البيان المشترك" وصفقات الجماعة مع السلط فضلا عن استعدادهم من الناحية المبدئية لادخال "الدساترة" للاتحاد (اقرأ في هذا الصدد نص "حول الطلبة الدساترة" بإمضاء أحمد الحسيني– 1996).
في تلك الوضعية المعقدة، وفي ظل تراجع الحركة وانحسار تأثير الأطراف المناضلة التي تعاني الحصار (الوطج، القوميين) والقمع المفتوح (إ.ش) بدأ التفكير في سبل تجاوز حالة التشرذم والتحضير للمؤتمر 23، وقد كانت هناك بهذا الصدد 3 رؤى: الأولى تمثلها الكتلة والقائلة بان هياكل الاتحاد (المكتب التنفيذي والفيدراليات) هي وحدها التي تتولى توزيع الانخراطات وانجاز الانتخابات حسب روزنامة معدة سلفا علما وأن بطاقة الانخراط قد وقع إبدالها شكلا ومضمونا (فسخ فصل من النظام الداخلي يقول بأن الانخراط مشروط بالالتزام بلوائح ومقررات الاتحاد وإرثه النضالي وشعاراته المركزية) فضلا عن كون عدد الانخراطات المعدّ للتوزيع ضئيل جدا ولا يخدم غير عناصر الكتلة وكذلك روزنامة التوزيع غير منسجمة مع واقع الحركة (رفض التوزيع أثناء التحركات الجماهيرية...). الرؤية الثانية هي رؤية "القيادة الشـرعية" ثم جزء أقلّي منهـا وهي الـداعية إلى تشكيل لجنة وطنية (طلبة وغيرهم للاشراف على التوزيع والانتخاب وتحضير المؤتمر). والرؤية الثالثة هي رؤية مناضلي إ.ش والمنطلقة من ضرورة تجاوز حالة التشتت وتوحيد الموقف في علاقة بالتحضير للمؤتمر عبر توزيع واحد وانتخابات واحدة مع رفض فكرة اللجنة الوطنية لأن الأمر يتعلق بوضع داخلي يهمّ مكونات الجامعة فقط، فضلا عن كون الواقع السياسي لا يسمح بذلك (القمع ومحاصرة الجامعة) فضلا عن أن "هياكل" الاتحاد القائمة مطعون في قانونيتها وشرعيتها وتمثيليتها، لذلك فالوضع استثنائي يتطلّب حلاّ استثنائيا، وهو ضرورة تكوين لجان ممثلة لكل الأطراف والحساسيات على مستوى كل جزء جامعي (تنبثق اللجان عن جلسات عامة) لتتولى توزيع الانخراطات وانجاز الانتخابات ملتزمة في ذلك بالقانون الأساسي والنظام الداخلي ومتناغمة مع تقاليد الحركة وإرثها النضالي (التوزيع الجماهيري والنضالي) وهو مقترح وإن وجد صدى عند عديد الأطراف (جزء من الوطج، القوميين) فإن الأمين العام وعصابته رفضوا ذلك بصفة قطعية، ورغم التنازلات التي قُدّمت لهم والتي وصلت حد الموافقة على أن تتولى "الهياكل" القائمة التوزيع شريطة الالتزام بتمكين الجميع من الانخراط (عدا الدساترة) وانجاز ذلك في أجواء نضالية (لا أجواء جنائزية) فإن الجماعة وبمقتضى اتفاقات ثابتة مع السلطة وبمقتضى "حسابات انتخابية" تقرّ بأن التوزيع الجماهيري والانتخابات الديمقراطية سوف تقلّص حظوظ الجماعة من المقاعد، وبمقتضى التناغم مع جوهرهم اليميني الانتهازي، فإنهم ضربوا عرض الحائط بقوانين المنظمة وتقاليدها ومصلحتها النضالية في لمّ شتات مناضليها، فتمّ التحضير للمؤتمر 23 بشكل لم تعرفه المنظمة من قبل إذ تم توزيع الانخراطات بطريقة سرّية على أنصارهم وعلى الدساترة والعناصر المشبوهة وتمّ إجراء الانتخابات في أجواء جنائزية قاطعها حتى "المنخرطون" ولم يُلتزم فيها بأبسط شكليات العملية الانتخابية (جلسات عامة، لجنة إشراف، قوائم، صندوق...) فتم التدليس والتزوير ودوس القوانين على طريقة المجموعات الفاشية، ليكون التحضير لهذا المؤتمر شرخا آخر في صفوف المنظمة الطلابية مازال لم يندمل حتى الآن ودخلت بمقتضاه المنظمة في أتون صراعات ومواجهـات لم ولن تستفيد منها إلا السلطة التي وجدت نفسها لأول مرة قـادرة على فرض منح الاتحاد مقرا لانجاز مؤتمره، وإن كان ذلك يشكل فرصة للجماعة حتى يراجعوا حساباتهم لتشريك الأطراف الجامعية وإحياء الوحدة النقابية للتصدي للسلطة، فإنهم واصلوا في غيّهم وأنجزوا انقلابهم الشهير في شهر أفريل 2000 في مقرّ الاتحاد بالعاصمة حيث جمعوا نوّابا مدلّسين وضعوهم في وضعية لا يحسدون عليها: تزكية انقلاب على شاكلة الانقلابات الفاشية ولعل ما عرفته المنظمة في تاريخها يظل شاهدا على ذلك ونقصد انقلاب قربة 1971، وها هو التاريخ يعيد نفسه في شكل مهزلة، وإن كانت المهزلة الأولى تمت بأيادي دستورية، فإن المهزلة الثانية تمت بأيادي "الرفاق".
IX- "المؤتمر 23" أو انقلاب الشقة:
في ظروف مثل التي عددناها، أصرّت الكتلة اليمينية الانتهازية على إنجاز جريمتها في حق المنظمة والحركة الطلابية رغم صيحات الفزع التي صدرت عن الأطراف والحساسيات السياسية بالجامعة وعن العديد من الأطراف في الحركة الديمقراطية "لكي يعود الجماعة إلى رشدهم"، لكن إرادة الانقلاب والتصفية انتصرت وأخفقت المكونات السياسية والنقابية المناضلة، رغم اتفاقها، في إجهاض المسار الانقلابي رغم الدور الذي لعبته خاصة بعد عودة مناضلي إ.ش من السجون والدفع المعنوي والنضالي الذي قدّموه في تصدّرهم لحركة النضال الطلابي في شهري نوفمبر/ديسمبر 1999 وشهري جانفي/فيفري 2000 حيث عادت الاجتماعات العامة الحماسية والاضرابات والتحركات الجماهيرية، هذا وقد استقبلت الحركة أبنائها العائدين استقبال الأبطال في أجواء نضالية جماهيرية (9 أفريل، القيروان...).
إذن أخفقت الأطراف المناضلة (إ.ش، الوطج، القوميين) رغم اتفاقها الذي جاء متأخرا، في الضغط على زمرة اليمينيين وجعلها تتخلى عن نواياها الانقلابية، خاصة وأن هذه الزمرة لعبت على عامل الوقت وراهنت الأطراف على "التفاوض" مع الكتلة لأجل حلّ الإشكال العالق (التوزيع، الانتخابات...) وهكذا وقع تغييب الجماهير الطلابية وتضييع فرصة "الحرارة" التي تعيشها الجامعة عادة في مفتتح العام، لتضيع الفرصة على هذه الأطراف كي تسحب البساط من تحت أقدام السماسرة وخدم الفاشية الذين كانوا في تلك الأثناء يمكّنون "الطلبة الدساترة" من بطاقات الانخراط ومن المواقع في الفيدراليات ويحرمون الجماهير وقواها المناضلة منها، كما شهد هذا الفريق اليميني المتربّع على قيادة المنظمة تصدعا بين أمينه العامّ سيّء الذكر عاصف اليحياوي وبقية أعضاء العصابة حول الأمانة العامة الجديدة إذ "انقلبت" الجماعة على "عرفها" بدعم من زعيم التكتل من خارج الجامعة الذي ظل يتصرّف في المنظمة الطلابية وكأنها "ملك خاص أو أصل تجاري" بل أنه صار قائد قيادتها أو "امين عام الظلّ وانتصب مفتيا ومرشدا لحركة الطلابية ومنظمتها النقابية، وهو الذي أطلق العنان لقلمه في صحف "الشعب" و"الطريق الجديد" ثم "الموقف" ليلقّن الجماهير الطلابية دروسه المفلسة المدافعة عن أقذر ما أفرزت الساحة الجامعية: الزمرة اليمينية التي تحولت إلى رجال مطافئ للنضالاات الطلابية ولعبت أكثر من مرة دور الوشاية والإخبار، كما لعب هو خارج الجامعة دورا مريبا وفي أفضل الحالات متفرّجا على النضالات الديمقراطية.
إذن في ظل حالة احتقان قصوى أصرّت الكتلة اليمينية على انجاز انقلابها في مهزلة قلّما عرفها تاريخ النظمة، انعقد المؤتمر /الانقلاب في شهر أفريل 2000 بالمقرّ المركزي في ظل مقاطعة الأطراف باجامعة والحركة الديمقراطية، ورغم انسحاب عدد كبير من "النواب" الذين أمضوا عريضة في الغرض منددين بالانقلاب وداعين لانجاز المؤتمر 23 الجماهيري والمناضل والممثل، وهؤلاء النواب هم ممثلو كليات منوبة ومعهد بورقيبة للغات الحية (قوميين ووطج الذين تمثلوا على حساب حليفهم إ.ش الذي كان الطرف الوحيد غير الممثل)، علما وأن "المؤتمر" حضره "15 نائبا دستوريا" من كليات مختلفة (علوم تونس، معهد الشغل، بئر الباي...) وقد تم نسبة هذا الأمر فيما بعد لعاصف اليحياوي الذي لم يتجاوز حضوره في "المؤتمر" بعض لحظات "تمنى فيها التوفيق للجماعة" معلنا نهايته وانتحاره السياسي وهو الذي كانت مدته النيابية نموذجية في تراجع الاتحاد وتحوّله إلى قطعة من الديكور، وهو الذي حوّل نقابة الطلاب التي خُطّ تاريخها بدم شهدائها إلى نقـابة مساهمة وتحوّل هو إلى "السحباني الآخر"، علما وأن عزّ الدين زعتور "الأمين العام الجديد" قال منذ اللحظات الأولى للانقلاب "أنه ذبح عاصف نهائيا" وهو ما يعكس الطبيعة الحقيقية للجماعة، في تلك الأثناء كانت الأطراف السياسية مرابطة بمدارج العمارة التي ينعقد فيها الانقلاب، منددة ومشهّرة بما يصير كما حضرت بعض الشخصيات في الحركة الديمقراطية شاجبة هذا الأمر، كما أحضرت الأطراف السياسية "عدل منفّذ" ليعاين الوضعية القانونية لما يسير وجملة الخروقات الشكلية التي تجهض إمكانية انجاز مؤتمر لا تتوفر أدنى شروطه القانونية، فضلا عن شروطه النقابية والسياسية، هذا وقد أصدرت الأطراف السياسية، (إ.ش، الوطج، القوميين) بيانا مشتركا رفضوا فيه ما يجري معتبرينه انقلابا على المنظمة وعلى قانونها الأساسي ونظامها الداخلي وإرثها النضالي وشعاراتها المركزية، داعين إلى الوحدة النضالية للجماهير من أجل انجاز المؤتمر 23 المناضل، الديمقراطي والممثل، وقد تم توزيع هذا البيان على الطلبة وعقدت اجتماعات عامة توضيحية، فضلا عن الاتصال بالحركة الديمقراطية لإعلامها بحقيقة ما صار، لكن انتهاء العام الدراسي وابتداء الامتحانات (بداية ماي من كل سنة) حالا دون مواصلة التوضيح وخوض المعارك ضد الانقلاب وصانعيه وافرازاته وهو ما سيقع مباشرة في السنة الجامعية الموالية 2000/2001 التي انطلقت في جوّ مشحون وفي ظل تمزق كبير بين القيادة المنقلبة من جهة والجماهير والأطراف السياسية من جهة أحرى وهو ما سيطبع السنة الجامعية تلك ومختلف محطاتها.
إذن كان انقلاب أفريل 2000 شرخا آخر يضاف إلى ما يطبع الحركة الطلابية وأداتها النقابية من تشتت وتناقضات كانت دوما على حساب مصالح الجماهير الطلابية والحركة التقدمية، فقد كرس الانقلاب قطيعة الحركة والجماهير مع القيادة الانتهازية المنقلبة، فتحول الاتحاد من هيئة اركان الحركة إلى هيكل صوري لا علاقة له بمشاغل الطلبة واهتماماتهم فضلا عن انسحابه بصفة نهائية من الحركة الديمقراطية وهو أمر كان بدأ منذ ما بعد المؤتمر 21، لذلك طرحت الأطراف السياسية المناضلة على نفسها ضرورة العمل على تجاوز هذه الوضعية من خلال قيادة عموم الطلاب لأجل تصحيح أوضـاع الاتحـاد عبر رفض الانقـلاب والمنقلبين وهو ما بدأت في خوضه منذ بداية السنة الجامعية 2000/2001، وقد نجحت الأطراف السياسية في قيادة حملة إعلامية مكثفة داخل الجامعة (الأجزاء الكبرى) وخارجها، لكن الهجمة القمعية للسلطة وأجهزتها البوليسية والإدارية حالت دون تواصل هذا العمل، إذ سرعان ما نظمت السلطة مجالس التأديب لنشطاء الحركة الطلابية بعد أن منعتهم أكثر من مرة من دخول كليـاتهم (أكتوبر /نوفمبر 2000) فنظموا الاعتصامات بمقر الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان، لكن مجالس التأديب انتصبت من جديد لتطرد أبرز مناضلي الحركة بكلية الآداب 9 أفريل (طه ساسي، عثمان قوادر، محمد المومني...) وكان ذلك بمثابة الردّ الأول على الحركة في أبرز معاقلها، فضلا عن كونه رسالة واضحة تعكس موقف السلطة التي ظلت دائما تساند المجموعة الانتهازية وكل المجموعات المشابهة لها، كلما أن السلطة لم تعترف في البداية بالقيادة المنقلبة لأنها لم تتضمن عناصر دستورية، ثم سرعان ما راجعت موقفها لأنها تدرك جيدا أن الجماعة مستعدة، كما في السابق لخدمتها، لذلك كان أول لقاء بين وزير التعليم العالي الصادق شعبان وزعتور بعد 6 أشهر من "المؤتمر" وفعلا فإن أول ما طرحته "القيادة الجديدة" على نفسها هو "إثبات حسن نيّتها" تجاه السلطة، فاكتفت بدور المتفرج في تحركات الطلبة بل مارست دورها التقليدي ألا وهو دور رجال المطافئ من خلال حملة التشكيك والوشاية والاتصال بالعمداء حتى "يتدخلوا ويقوموا بدورهم" في منع أي نشاط لا يحمل طابع الاتحاد (؟!؟!) كما رفضوا أن يعتصم الطلبة المطرودون في مقرّ الاتحاد، ورفضوا تبني مطالبهم في العودة، بل إن الجماعة لعبت أقذر الأدوار: الوشاية، وذلك بمناسبة انعقاد مجلس التأديب بكلية 9 أفريل بتونس في شهر ديسمبر 2000 ليرفت نشطاء الحركة، بأن اتصلوا بالإدارة وأعلموها أن "هؤلاء لا يلزمون الاتحاد ونشاطاتهم لا علاقة لها بالاتحاد".
وقد كانت انتخابات مجالس الكليات أول مناسبة نضالية انعكس فيها الصراع بين شقّين في الحركة الطلابية، شق راديكالي تمثله الأطراف المناضلة وشق يميني تمثله قيادة المنظمة، وقد تقدم الشقان في قوائم متنافسة، الأطراف (إش، الوطج، القوميين، مستقلين) في قـوائم سمّيت "جبهة النضال الطلابي التقدمي الموحّد" والشقّ الآخر في إطار "قوائم الاتحاد" وقد كانت قوائم الأطراف تندرج في إطار جهد توحيد للأطراف المناوئة للقيادة والمتباينة مع أطروحاتها وسلوكاتها على أنه وإن كان هذا الجهد سليما من الناحية المبدئية فإنه وُلد مرتجلا ومتسرّعا ولم تُراع فيه مقومات وشروط العمل الجبهوي الذي يظل دوما مشروعا وحتميا، لكن كيفية تعامل الأطراف المختلفة معه وعدم تخلّص هذه الأطراف مجتمعة من رواسب العفوية والفوضوية والمناسباتية وعقلية "القسمة والكراسي" كلها أجهضت هذا المشروع، بل إن مشروع "الجبهة" وُلد والأطراف المكوّنة لها تعاني صراعات وتصدعات ظلت دوما هامشية وترتبط بنزعات فردية زعاماتية، مثل ما صار بمناسبة طرد الطلبة من كلية 9 أفريل وما صاحبها من تصرفات فردية لا ديمقراطية، إذ ارتجّت أغلب العناصر وارتمت على بعض الأطراف "كي تحلّ لها مشاكلها" مثل اتحاد الشغل والوزارة...ن في حين كان من المفروض أن يكون كل قرار نابع من المجموعة المعنية وفي إطار النقاش الديمقراطي، إن مثل هذه العقليات أجهضت في السابق ولازالت تجهض كل نيّة في توحيد شتات الديمقراطيين، على أن أخطاء "الجبهويين" لم يستفد منها في الحقيقة إلا السلطة والقيادة الانتهازية، هذا دون نكران الدور والمجهودات التي قامت بها الأطراف السياسية في فضح الانقلاب وتوضيح الوضعية للجماهير الطلابية والحركة الديمقراطية (عدم تمكين "الاتحاد" من التدخل في افتتاح المؤتمر الخامس لرابطة حقوق الانسان). وقد كانت احتفالات ذكرى حركة 5 فيفري المجيدة لسنة 2001 فرصة لسحب البساط من تحت أقدام المنقلبين الذين مارسوا كالعادة دور الوشاية بالاتصال بإدارات الكليات لمنع أي نشاط عير تابع "للهياكل"، لكن إصرار الأطراف وروحها الكفاحية العالية أجهضت هذا المسعى فتم سحب البساط من تحت أقدام الانتهازيين الذي كان حضورهم باهتا، عكس الأطراف المناضلة التي فرضت احتفالاتها (9 أفريل، القيروان، صفاقس، المركب الجامعي، منوبة...) والتي كانت نوعية ربطت الحاضر بالماضي واستخلصت الدروس من الإرث النّير للحركة الطلابية التي ظلت دوما تقاوم الانقلابات والمنقلبين بمختلف شيعهم ومللهم (دساترة، كتلة...)، هذا وقد عرف الموسم الجامعي 2000/2001 في آخر أيامه في أفـريل /ماي 2001 "تنطّعا" لهيكلين من هياكل الاتحاد ألا وهما المكتب الفيدرالي بكلية العلوم الاقتصادية بجندوبة والمكتب الفيدرالي بالمعهد الأعلى للدراسات التكنولوجية بقفصة الذين خاضا جملة من النضالاات المتواصلة احتجاجا على موجة العنف التي نظمها طلبة الحزب الحاكم ضد مناضلي الاتحاد، واحتجاجا على الظروف الدراسية السيئة (خدمات جامعية، أفاق طلبة الدراسات التكنولوجية...) وقد لاقت هذه النضالات تجاوبا في الحركة الطلابية والديمقراطية خاصة في جهتي جندوبة وقفصة (تكوين لجان مساندة للطلبة المطرودين، اجتماعات تضامنية...) وهو ما احرج قيادة الاتحاد وخاصة أمينها العام الذي هبّ في جولات مكوكية محاولا اقناع المناضلين "لتهدئة الأجواء" وهو المتفق مع وزارة الإشراف على "السلم الدائمة" خاصة وأن المبادرة انطلقت هذه المرة من هياكل الاتحاد (لا من الأطراف "المناوئة والمتطرفة") وقد كانت حصيلة هذه التحركات طرد مجموعة من مناضلي الاتحاد وحرمانهم من إجراء امتحانات آخر السنة، هذا ولم تتجاوز "مساهمة" قيادة الاتحاد في مساندة المطرودين إجراء يوم تضامني في مقر الاتحاد لم يتجاوز الحضور فيه الـ50 نفرا لم تُستدعى إليه الأطراف السياسية بالجامعة علما وأن مناضلي إ.ش حضروا هذا اليوم معلنين مساندتهم المطلقة لنضالات الطلبة مشهّرين بصمت قيادة الاتحاد وتخليها عن ابسط أدوارها. علما وأن بهتة قيادة الاتحاد كانت تبَرّر بانشغال "الأمين العام" بامتحاناته؟؟ وهو انحراف خطير يستهدف جماعية القرار والفعل وهو احد الإفرازات المنطقية للانقلاب، وإحدى الاستتباعات الهجينة لهيمنة الكتلة الانتهازية على مفاصل القرار داخل المنظمة الطلابية، وهو ما سيكون أحد الأسباب المشرّعة لتصدّع القيادة والذي بدأت علاماته الأولى بصدد الاعتمال وهو ما سيبرز بشكل أكثر وضوحا بمناسبة المجلس الوطني الذي سينعقد في الصائفة (25 جويلية -2 أوت 2001 بالمبيت الجامعي الغزالي بسوسة) والذي ستشارك يه بعض الأطراف السياسية المتباينة مع خط القيادة.
1- المجلس الوطني: تمسّك بالاتحاد وبالنضال ضد قيادته اليمينية:
قُبيل المجلس الوطني، ظهرت صيحات فزع من قيادة الاتحاد تدعو فيه الأطراف إلى الالتحاق بالاتحاد والمساهمة في النظر في وضعيته التي ازدادت سوءا وتراجع دوره بشكل لم يعرفه من قبل، فضلا عن أن بعض الأطراف السياسية ونقصد إ.ش أساسا دخل منذ أواخر العام الجامعي في عملية تقييمية لأدائه وأداء "حلفائه" وقيادة الاتحاد منذ الانقلاب، كل ذلك في علاقة بالأهداف المرسومة والتي يمكن حوصلتا في: استعادة الاتحاد العام لطلبة تونس عبر انجاز المؤتمر الـ23 الديمقراطي، المناضل والممثل عبر الضغط القاعدي على زمرة المنقلبين، وكانت نتيجة التقييم أن الأطراف التي أمضت البيان المشترك ودخلت تجربة العمل المشترك عبر "جبهة النضال الطلابي التقدمي الموحد" أخفقت في انجاز مهامها، بل أن ادائها غير المخطط وغير المربوط بالمهامّ المعلنة، فضلا عن السلوك اللامبدئي الذي مارسته بعض الأطراف تجاه بعضها (تجاه إ.ش خصوصا) بالإضافة إلى قمع السلطة ومحاصرتها لمناضلي الأطراف زيادة على ضعف الأطراف في حدّ ذاتها وانحصار تواجدها بصفة رمزية في بعض الأجزاء الكبرى، كلّها عوامل أثّرت بشكل ملموس على أداء هذه الأطراف التي عجزت على إعطاء عملها طابعه الجماهيري القاعدي، هذا دون نسيان أن التكتيك النقابي (كل تكتيك) غير ثابت بل يراعي جملة من الشروط تحكم تطوّره وتحوّله، وفي الحالة النقابية بالجامعة، توخّت الأطراف تكتيك الضغط من خارج المنظمة، وهو تكتيك مفروض لم تختره الأطراف. هذا التكتيك لم يُؤت أكله بل انطبع في عمومه بالمحدودية، وهو ما يفترض -انسجاما مع التطورات الحاصلة في الواقع الذاتي والموضوعي- مزاوجته مع ضغط داخلي أصبح ممكنا لو أفلحت الأطراف في صياغة شروط تحققه، هذه المقاربة التي تهدف إلى ضمان النجاعة في النشاط وتقريب ساعة تجسيد الأهداف، كانت خلفية مناضلي إ.ش الذين شاركوا في أشغال المجلس الوطني بمعية بعض الطلبة القوميين (بعث...) والمجموعة المتشيّعة للطاهر قرقورة، ولم يشارك في المجلس الوطني مناضلي الوطج وبعض القوميين رغم تفاعل بعض عناصر هذه المجموعات مع مقترح المشاركة.
كانت مشاركة إ.ش في أشغال المجلس الوطني منطلقة من قناعة التمسك بالاتحـاد العامّ لطلبة تونس، منظمة تـاريخية، ومناضلة ووحيدة للحركة الطلابية التونسية، يجب العمل من داخلها لأجل استعادتها لخطّها النضالي الراديكالي المميّز لها، والذي عملت الكتلة اليمينية وكل الزّمر الانتهازية على تصفيته، على أن الموقف من "المؤتمر 23" يمكن اعتباره مسألة خلافية بين القيادة المنبثقة عنه والأطراف الرافضة له، هذه المسألة الخلافية لا يمكن حسمها إلا بواسطة المؤتمر الديمقراطي، الآلية الوحيدة التي لها صلوحية فضّ هذا الخلاف، لذلك فإن مهمة إ.ش ومجمل الأطراف المناضلة هي العمل على فرض المؤتمر الديمقراطي المناضل والممثل والذي من شأنه حسم هذا الأمر، على أن إ.ش عمل وسيظل يعمل على تنسيب الوضع داخل الاتحاد من خلال المؤتمر الاستثنائي الذي سيصحح الوضعية التي افرزها الانقلاب، على أنه حريّ بالذكر أن الكتلة اليمينية أرادت من مشاركة إ.ش وبقية الأطراف إعطاء شرعية ظلّت مفقودة لها ولهياكلها، كما أرادت من هذه المشاركة أن تكون شكلية "تغنم منها سياسيا" بادعاء أن "الاتحاد ممثل ولا تشكيك في شرعية قيادته" وهو ما كان مناضلو إ.ش على علم به وهو ما برز منذ اللحظة الأولى قُبيل انطلاق أشغال المجلس برفض عز الدين زعتور لبيانات أراد مناضلو إ.ش تعليقها، كما رفض تنظيم أي حلقة نقاش على هامش النشاط الرسمي، وهو ما رفضه المناضلون رغم إبدائهم كثيرا من المرونة بهدف إنجاح المجلس الذي أراد مناضلو إ.ش منه أن يرفع جملة من التوصيات والمقررات بهدف تجاوز الوضع المتدهور داخل المنظمة، وقد نجح مناضلونا في ذلك، بعد مشاركة الحضور في 4 لجان: لجنة العودة الجامعية، لجنة اصلاح التعليم وبطالة أصحاب الشهائد، لجنة علاقة الاتحاد بالحركة الديمقراطية، لجنة فضّ الخلافات النقابية والسياسية داخل الاتحاد العام لطلبة تونس وهي لجنة تُحدث لأول مرة في تاريخ المنظمة، علما وأن عناصر الكتلة كانوا يريدون بعث لجنة لصياغة ميثاق شرف طلابي، وهو ما رفضه مناضلو إ.ش، لأن هذا ليس من مهام المجلس الوطني علما وأن المؤتمر 22 كان أصدر هذا الميثاق وأول من خرقه هو القيادة المنبثقة عن ذلك المؤتمر، كما أن الهدف من طرح فكرة الميثاق كان "التوريط السياسي" لا غير. إذن نجح المناضلون في إصدار توصيات في مجمل هذه اللوائح تصبّ كلها في خانة ضرورة تنسيب أوضاع الاتحـاد من خلال توضيح وضعيـات هياكله القاعدية (بعث لجان مفوّضة ممثلة وإجراء الانتخابات القاعدية) وتجميع الطلبة حول منظمتهم من خلال طرح المحاور النضالية الأساسية داخل الجامعة والبلاد، كما رفع المجلس الوطني توصية خاصة (في كل اللوائح) حول ضرورة انجاز المؤتمر الوطني في السنة الجامعية الموالية. كما أكد المشاركون على ضرورة أن يكون الاتحاد هو الوعاء والإطار المحتضن لكل الرؤى والأطروحات لمكونات الحركة الطلابية ، مع التذكير بموقف الاتحاد والحركة من السلطة وطلبتها وخصوصا مسألة الانخراط في الاتحاد.
إذن خرج المناضلون من المجلس الوطني بتوصيات ومقررات كان من شأن تطبيقها والالتزام بها، أن تشكل خطوة في اتجاه تصحيح أوضاع الاتحاد، وهو ما عمل مناضلو الحركة طيلة الثلاثي الأول من العام الجامعي 2001/2002 على فرضه خاصة فيما يتعلق بالاستعداد لانجاز المؤتمر الوطني وهو ما اصطدم بعقلية مقاولاتية ترهن مصلحة المنظمة ومستقبلها بعقلية بيع وشراء وربح الوقت عكسها أساسا عز الدين زعتور الذي جمع في خصاله أرذل مساوئ سابقيه من سيّء الذكر سمير العبيدي ونوفل الزيادي وعاصف اليحياوي، وهو الذي حوّل منظمة الطلاب إلى وسيلة للتكسب والتمعّش الرخيص، وهو الذي لم يكلّف نفسه ولو لمرة الانتقال إلى أي جزء جامعي ولم يشارك في أي نشاط جماهيري للاتحاد، فضلا عن مقاطعته لكل أنشطة الحركة الديمقراطية، بل كان لا يحذق إلا التمسّح على أعتاب وزير التعليم العالي وبعض الأوساط الأخرى المشبوهة، كما ارتبطت مدّته النيابية بسوء تصرف فظيع في مالية الاتحاد نستنكف ونترفّع عن ذكر تفاصيلها.
إذن مرّ الثلاثي الأول دون تحويل توصيات المجلس الوطني إلى الواقع، رغم تحسّن الأداء النقابي والسياسي بالجامعة وهو ما قدرت الأطراف المناضلة على فرضه، كما شهدت المشاركة في انتخابات المجالس العلمية مشاركة كل الأطراف في قوائم موحّدة في مجمل الأجزاء الجامعية ضد السلطة وطلبتها خاصة وقد عرفت هذه الانتخابات موجة كبيرة من العنف المنظّم من قبل "الطلبة الدساترة" ضد مناضلي الاتحـاد في كل الكليـات (منوبة، علوم تونس، 9 أفريل، عـلوم المنستير، جندوبة، قفصة...) كان من نتائجها عديد الجرحى في صفوف مناضلي الاتحاد وإجراء عملية جراحية دقيقة على الدماغ للطالب ساسي غابي (علوم المنستير). كان ردّ فعل قيادة الاتحاد بأن وزّعت عديد البيانات التوضيحية وقررت إضرابا عاما يوم 16 نوفمبر 2001 حامت حوله عديد الشكوك (...)، وقد شارك مناضلو إ.ش في تفعيل هذا الإضراب الذي قاطعته بعض الأطراف (وطج، قوميين)، وقد كانت هذه المشاركة تهدف إلى الربط مع التقاليد العريقة للحركة والاتحاد، وعلى ضرورة استغلال هذه المناسبة للاتصال بالجماهير الطلابية، هذا مع ابداء جملة من الاحترازات تتعلق أساس بالشكل المرتجل والمتسرّع لاتخاذ قرار الاضراب الذي كان من المفروض أن يكون مسبوقا بإجراء استشاره واسعة مع الطلاب والأطراف السياسية.
هكذا إذا ورغم تحسن الأداء عموما كما قلنا، فإن الاستحقاقات النقابية والسياسية للمجلس الوطني ظلت مغيبة بقصد، وهو ما ارجع وتيرة الصراع إلى سالف عهدها خاصة بمناسبة إحياء الذكرى الخمسين لتأسيس الاتحاد العام لطلبة تونس في فيفري 2002.
2- الخمسينية وطعنة أخرى في ظهر الاتحاد والحركة.
كان من توصيات المجلس الوطني الاستعداد لإحياء خمسينية الاتحاد وثلاثينية حركة فيفري 1972 المجيدة، ويكون ذلك بتشريك كل الأطراف المناضلة وكل فصائل الحركة الديمقراطية التقدمية وقدماء المناضلين مع العمل على ضرورة تعميم الاحتفالات على كل الأجزاء الجامعية، لكن إرادة "الأمين العام" أحبطت كل هذا المسعى، رغم أن قيادة الاتحاد أحضرت برنامجا لإحياء الخمسينية لم تشرك فيه أحدا، وكان من بين فصول هذا البرنامج اجتماعا للقدماء، والقدماء بالنسبة لهم هم من طينة عيسى البكوش وسمير العبيدي (؟؟)
وقد اكتمل هذا السيناريو الانتهازي بمشاركة عز الدين زعتور في الندوة الصحفية الشهيرة والتي نظمتها جريدة "الصباح" في شهر جانفي (انظر أعداد 25-26 جانفي 2002) وهي أول ندوة تنظم بمشاركة أمين عام للاتحاد وحضور كاتب عام "منظمة طلبة التجمع" كما حضرهـا سمير العبيدي ولسعد القلمامي ومسعودة الهلالي (عضوي منظمة الطلبة الدستوريين في الثمانينات) وعبد الجليل بوقرّة والطاهر شقروش والطالبة عائدة بالعائبة (من مجموعة زعتور)، وقد أثارت هذه المشاركة تصدعا في قيادة الاتحاد ومجموعة "الكتلة" باعتبار "عدم العلم بهذه المشاركة" وهي "تصرف فردي لا يلزم هياكل الاتحاد" التي أصدرت بعضها بيانات ترفض هذا السلوك ("المكتب الفيدرالي" 9 أفريل...)، وقد رفضت الأطراف السياسية هذا السلوك من موقع رفض أي تعامل مع طلبة التجمع وأذنابهم والمدافعين عنهم وعن انخراطهم في الاتحاد، ومن موقع الرفض المبدئي والمطلق لانخراط الدساترة في اتحاد الطلبة وهو الأمر الذي قررته الجماهير الطلابية وطلائعها التقدمية والثورية منذ حركة فيفري 1972 المجيدة التي خطت الهوية النضالية للاتحاد والتي كرست الإرث النضالي للحركة طيلة 17 سنة من النضال من أجل انجاز المؤتمر 18 خ.ع، كما كرسته الأجيال الطلابية المتعاقبة، وأكدته اللائحة الخاصة بهذا الأمر في المؤتمر 22 حين رأت الأطراف الثوريـة (إ.ش) تذبذب بعض المواقف واستعداد البعض لتكسير "الفيتو" التاريخي ضد ميليشيات التجمع وأذناب البوليس.
لقد هيمنت هذه المشاركة الخسيسة لزعتور، على فعاليات الخمسينية التي لم تقدر قيادة الاتحاد على انجاز أي نشاط بصددها بحكم رفض الأطراف السياسية والجماهير الطلابية لمثل هذه الأنشطة الملغومة والتي كان بعضها بمشاركة "منظمة طلبة التجمع" مثلما صار بمناسبة التظاهرة الثقافية بالمركب الثقافي الحسين بوزيان الذي حضره زعتور بمعية حسونة الناصفي كاتب عام الطلبة الدساترة، كما أصدر "المكتب التنفيذي" بطاقة بهذه المناسة اُبدل فيها شعار الاتحاد الذي يحمل رمز الحركة الطلابية (5 فيفري) شعار آخر يشبه إلى حدّ كبير شعار الدساترة (مشعل يحمله طالب وطالبة) مما حدا بعديد الطلبة إلى تعنيف عزّ الدين زعتور في كلّيتي الآداب بمنوبة و9 أفريل احتجاجا من الجماهير على خيانته (وهو أمر كان يحصل يوميا مع الطلبة الدساترة في السبعينات والثمانينات)، كما قاطع الطلبة والأطراف حفل افتتاح إحياء الخمسينية بكلية الحقوق بتونس عندما رفض زعتور تمكين الأطراف السياسية بالجامعة من التدخل وهي احدى البدع التي جاءت معه ومع زمرته، لذلك لم يدم الحفل أكثر من بعض دقائق ولم يحضره أكثر من 50 شخصا (طلبة ومدعوّين) من أصل أكثر من 200 ألف طالب يؤمّون الجامعة (؟؟) علما وأن الأطراف المناضلة نظمت عديد التجمعات الجماهيرية التي واكبها آلاف الطلبة بعديد الكليات.
أما عن تدخل زعتور في الندوة الصحفية فقد عبّر بصدق عن الموقف الرسمي والحقيقي للزمرة الانتهازية المطرودة من حزب العمال وإ.ش منذ نهاية 1993 بحكم انحرافاتها اليمينية. وطالما أنه لم يصدر عن زعتور أي تكذيب أو توضيح لما نسب له من طرف جريدة "الصباح" فإننا سنعتمد ما نُشر كما هو. انطلق زعتور في كلامه عن ظروف تأسيس الاتحاد بترديد ما تروّجه السلطة وحزبها منذ زمن طويل وذلك بتزوير التاريخ ونسبة الاتحاد إلى حزب الدستور منذ يوم تأسيسه الأول ودفاعه عن خيارات هذا الحزب وسياساته ومما قال زعتور: "...ومنذ التأسيس على يد الدستوريين... ودافع عن الوطن والوطنية والاستقلال الذاتي"، وهو عين التزييف والتزوير لتاريخ المنظمة، إذ أن الاتحاد لم يؤسسه الدستوريون بل إنهم كانوا أحد أطرافه المؤسسة وخاصة جناحه اليوسفي الراديكالي الذي كان صاحب نفوذ كبير في الحركة الطلابية القديمة (الحركة الزيتونية وتجربة "صوت الطالب") وهو جناج يتكون أساس من العناصر المتأثرة بالناصرية الصاعدة (فيما بعد، بداية من 1952) هذا أولا، أما ثانيا فمن المعروف أن موقف صالح بن يوسف من "الاستقلال الذاتي" كانت أحد المسائل التي عجلت بتصدع الحزب الدستوري، وهو الذي (أي بن يوسف) رفض شكلا ومضمونا صفقة "الاستقلال الذاتي" ودعى إلى ضرورة النضال من أجل استقلال تونس في إطار استقلال كامل أقطار المغرب العربي، فكيف للاتحاد العام لطلبة تونس أن يدافع عن "الاستقلال الذاتي" وهو الذي تأسس راديكاليا ومناضلا فعليا من أجل الاستقلال التام والحقيقي، وهو توجه يناقض إلى حد كبير طموحات قادة حزب الدستور (الجناح البورقيبي أساسا)، فما الذي جعل زعتور يزيف التاريخ ويراه من خلال عيون أعدائه الذين تحوّلوا بفعل فاعل إلى أصدقاء له تماهى معهم قلبا وقالبا؟ ما الذي جعله يزوّر التاريخ وهو الطالب في شعبة التاريخ؟
ثم لا يرى هذا الأخير حرجا في استعمال نفس الألفاظ التي يستعملها الدساترة مثل قوله: "...وقد شكل (أي الاتحاد) مدرسة جمعت خيرة شباب تونس المثقف الذي كان دعامة لبناء الدولة الحديثة". إنه كلام جدير بأعضاء الشُّعب ومنظمات الديكور. فعن أي شباب يتحدث وعن أي دعامة وأي دولة حديثة؟ إنه لا شك يتحدث عن حامد القروي والطاهر بلخوجة ومحمد الصياح وعيسى البكوش والحبيب الشغال وسمير العبيدي وغيرهم، لا شكّ أنه لا يقصد محمد بن جنات وأحمد بن عثمان والفاضل ساسي وفتحي فلاّح ونبيل البركاتي وأجيال متلاحقة شرّدتها الفاشية وقضت ربيع عمرها في السجون والثكنات، وقضى البعض الآخر نحبه تحت سياط التعذيب وخراطيش الغدر الطبقي، إننا نقول لزعتور هذا الجبان والخائن: إذا لم تستح فقُل ما شئت.
ويواصل زعتور "قرائته العبقرية" لتاريخ الحركة معتبرا هيمنة السلطة وتدجينها للاتحاد وانقلابها على إرادة جماهيره وأعضائه من قبيل "النكسات" ومعتبرا انقلاب قربة الفاشي "... إلى حدود 1971 حيث حصلت قطيعة تعمّقت معها الأزمة"، إنه الانقلاب الزعتوري على أبسط ابجديات أدبيات الحركة الطلابية والاتحاد العام لطلبة تونس.
بعد هذه المقدمات يدخل زعتور، أو قل يقع إدخاله إلى بيت القصيد، وهو الموقف من مسالة انخراط الطلبة الدساترة في اتحاد الطلبة يقول زعتور: "... وقوانين المنظمة تنص على أن كل طالب مسجّل في الجامعة ويحمل بطاقة طالب له الحق في الانتماء والنشاط والترشح إلى عضوية الاتحاد... واعتقادي الراسخ أن الاتحاد لم يمنع في يوم من الأيام طالبا أو طالبة من الانخراط في الاتحاد وأبوابه كانت دوما مفتوحة وترحب وتتسع لكل الطلبة". وحتى لا نُتّهم -كالعادة- بالاصطياد في الماء العكر رغم وضوح ما قاله "الرفيق" زعتور فلنتركه يواصل ".. وأود أن أقول أننا في الاتحاد لم نغلق الباب أمام طلبة التجمع والدليل على ذلك وصول البعض منهم إلى مكاتب فيدرالية في الاتحاد" ويضيف "...إننا مع استشراف المستقبل داخل الاتحاد، ومع النظرة الايجابية لمستقبل الاتحاد... نحن لا نستثني أحدا، والانخراط مفتوح لكل الطلبة ومرحبا بكل طالب يريد ويرغب في الانضمام للاتحاد"، ونحن نترفّع عن أي تعليق، ويختم "الرفيق" تدخّله بالشحاذة وتسوّل الحقّ، وهي من صميم أخلاقه وممارساته "الثورية جدّا" يقول "...إننا نطلب فقط أن يستمعوا إلينا وأن يقع تشريكنا في القرارات ومرحبا بالجميع داخل الاتحاد...". إن هذا الجرد لبعض ما قاله زعتور إنما يعكس بالضبط طبيعة المنظمة التي يريدها وكما يراها، وهذا هو فعليا ما هو بصدد ممارسته وقد أكدت الأحداث الموالية صحة استنتاجاتنا، وكما قلنا فقد كان ردّ فعل الأطراف المناضلة داخل الجامعة هو الرفض المطلق لهذا المسار التصفوي الذي يستهدف كيان المنظمة وهوّيتها التي استهدفها اليمين الانتهازي منذ سنوات، وكردّ على ما آلت إليه الأوضاع تقدّمت الأطراف السياسية المناضلة (إ.ش، الوطج، شباب الحزب الديمقراطي التقدمي، القوميين، المستقلين) بمبادرة نقابية تهدف إلى السعي عمليا لتصحيح أوضاع الاتحاد وإنجاز المؤتمر الوطني المناضل والممثل والديمقراطي، وقد انطلقت المبادرة من التأكيد على التمسك بالا.ع.ط.ت منظمة تاريخية ومناضلة لكل الطلاب، والتمسك باستقلالية القرار وديمقراطيته داخل المنظمة، وكذلك المسك بالإرث النضالي للحركة وبالهوية النضالية للاتحاد، وعلىاعتبار أن الاتحاد يعيش وضعا استثنائيا منذ انقلاب أفريل 2000 وانحراف القيادة وعدم استعدادها لتصحيح أوضاع الاتحاد. فإن المطروح هو التحضير عمليا لتجاوز وضعية الشلل التي تعيشها كل هياكل الاتحاد وذلك بتوزيع الانخراطات وانجاز الانتخابات القاعدية تحضيرا للمؤتمر الوطني الذي لا يجب أن يتجاوز أجل انجازه مفتتح السنة الجامعية الموالية. وقد لقيت هذه المبادرة تفاعلا إيجابيا في مختلف الكليات التي بادر مناضلوها بترويج عرائض تطالب القيادة بتوزيع الانخراطات، كما بادرت بعض الهياكل بإصدار بيانات ومراسلات للقيادة في ذات الغرض رافضة أي تسويف في هذا الأمر، منددة بسلوك القيادة وأساسا أمينها العام (المشاركة في الندوة الصحفية، تدجينه لمنظمة، تفريطه في استقلاليتها، سوء التصرف المالي...) ومن بين هذه الهياكل التي نظمت جلسات للأنصار لتوضيح هذه المور نذكر المكتب الفيدرالي بعلوم المنستير وآداب صفاقس (جلسات مناضلين لغياب هيكل هناك)...
لكن عطلة الربيع ثم حركة الاحتجاج الطلابي الكبير المساندة لانتفاضة الشعب الفلسطيني حالت دون التقدم في انجاز برنامج المبادرة هذا فضلا عن بروز تطورات جديدة في قيادة الاتحاد سنأتي على ذكرها.
نعود إلى المبادرة النقابية، والتي وإن لقيت تفاعلا كبيرا في أوساط مناضلي الاتحاد العامّ وأنصاره وجماهيره التي حُرمت لسنوات من حقّها في الانخراط والعضوية، بل ولقيت صدى عند العديد من أعضاء الاتحاد بما فيهم أعضاء في القيادة، فإن "الأمين العامّ لم يبال بالأمر واعتبره "صيحة في بئر" وراح يتجوّل في مقاهي العاصمة و... يشوّه ويشتم ويسبّ، ولم يسلم من سلوكه الانتهازي والمشبوه حتى عضو المكتب التنفيذي المناضل عادل الحامدي الذي أطرد من كلّيته (علوم المنستير) بسبب نشاطه النقابي، وهو الذي هدده "برميه من الشّبّاك" إن هو قام بإضراب جوع في مقرّ الاتحاد مطالبا بحقه في العودة للدراسة، كما كان الاتحاد هو الاستثناء، كما هو منذ سنوات، بمناسبة محاكمة الرفاق حمّة الهمامي وعمار عمروسية وعبد الجبار المدوري وسمير طعم الله الذين لقوا مساندة من جميع فعاليات المجتمع المدني المناضل وأصدرت كل الأحزاب والمنظمات بيانات مساندة (حزب العمال، الحزب الديمقراطي التقدمي، حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، الرابطة، النساء الديمقراطيات، هيئة المحامين التي دعت لإضراب يوم 7 فيفري احتجاجا على الاعتداء على الرفاق ومحاميهم يوم 2 فيفري 2002...) علما وأن الرفيق سمير طعم الله هو عضو بالاتحاد (آداب القيروان) كما لم يحرّك الاتحاد ساكنا بمناسبة محاكمة الرفيق علي الجلولي مناضل الاتحاد بمناسبة محاكمته على إثر تعنيفه من طرف طلبة دساترة في جانفي 2001. وقد صدر حكم ضد الرفيق بشهر سجنا غيابيا (أبدل بخطية بـ100 دينار) كما ظل "أمين عامّ" اتحاد الطلبة الغائب الدائم عن كل معارك الحركة الديمقراطية (أيام التضامن مع حمة الهمامي ورفاقه، الندوة حول تعديل الدستور، التحركات المساندة لفلسطين...).
كما جاءت التحركات التي خاضتها الحركة الطلابية والحركة الشعبية المساندة لنضال الشعب الفلسطيني طيلة شهر أفريل والتي قمعها البوليس بقوّة والتي مازال بعض الطلبة يعانون آثـارها إلى حد الآن (المنـاضل بلقاسم عبد الله من علوم تونس الذي تعرض لكسر في رجله). وقد عرفت مختلف الأجزاء الجامعية مسيرات ومظاهرات واجتماعات عامة صاخبة وتظاهرات حائطية... تعرب عن المساندة المطلقة لانتفاضة الشعب الفلسطيني وصموده البطولي، كما أحيت الحركة الطلابية ولأول مرة منذ سنوات اليوم العالمي للشبيبة المناهضة للامبريالية (24 أفريل) من خلال تنظيم تجمّع طلابي بكلية الآداب منوبة حضره مندوبون عن "اللجنة الشعبية لمناصرة الشعب الفلسطيني ومقاومة التطبيع" ومن نقابة الأساتذة الجامعيين... أما في الشارع فقد سقط عديد القتلى فداءا لفلسطين (سبيطلة، المهدية) كما تم إيقاف عديد التلامذة (الرديّف، قفصة، سيدي بوزيد...) ووقع قمع عديد المسيرات التي نظمها النقابيون بتونس العاصمة وصفاقس وجبنيانة والقيروان وبنزرت... ولم تصدر قيادة الاتحاد ولو بيانا تنديديا بما صار، فكلما تعلّق الأمر بإبداء موقف من السلطة يصمت زعتور، ألم يقل أكثر من مرة أنه "مسنود من الرئاسة ووزير التعليم العالي ووزارة الداخلية"؟؟
في خضم هذا الصمت المخجل، وهذه الاستقالة المشبوهة وفي ظل إصراره على التفرّد بالقرار داخل القيادة وإمعانه في ممارسة أبشع أشكال البيروقراطية والفوقية في تعامله مع المكتب التنفيذي، وفي ظل غياب أي شفافية في التعامل المالي، وفي ظل تجميد مقصود لاجتماعات الهياكل (المكتب التنفيذي، الهيئة الإدارية) وبعد طلب أغلبية أعضاء المكتب التنفيذي لعقد اجتماع الهيكل القيادي وبعد الرفض غير المبرّر لزعتور، انعقد اجتماع المكتب التنفيذي يوم 11 أفريل 2002 وقرر إجراء تحوير جزئي للمسؤوليات تم بمقتضاه سحب أمانة المال من فاروق الكوكي الذي حوّل مالية الاتحاد التي يقع تمويلها بطرق مشبوهة (إرشاء من الرئاسة والوزارة) إلى أموال خاصة يتصرف فيها هو وزعتور ويحرم أغلب أعضاء القيادة حتى من حقّهم في الاطلاع على جرد مالي طُلب منذ أشهر (بطلب الهيئة الإدارية التي يجب أن تطلع في كل اجتماع على التقرير المالي)، كما دعى اجتماع المكتب التنفيذي لاجتماع الهيئة الإدارية باعتبارها ثاني سلطة بعد المؤتمر للنظر في وضعية الاتحاد وسير هياكله وتنسيب أوضاع قيادته (التصرف الفردي، التصرف المالي...) ولم تنعقد الهيئة الإدارية يوم 11 ماي لغياب النصاب القانوني فوقع تأجيلها ليوم 25 ماي.هنا لا بد من ذكر أن ما سردناه من تصرفات وسلوكات منافية للتسيير الديمقراطي والشفافية واستقلالية القرار داخل المنظمة في علاقة بالسلط وفي علاقة بأطراف من خارج الاتحاد فضلا عن عدم الاستعداد لتطبيع أوضاع الاتحاد الداخلية وانجاز مؤتمره، كل هذه المسائل كانت عناوين لخلاف بدأ يعتمل داخل قيادة الاتحاد ويمكن اعتبار الخمسينية (الندوة الصحفية) محطة بارزة لظهور الخلاف فوق السطح، هذا الخلاف حول جملة هذه المحاور، قابلها "الأمين العام" وأقلية حوله (4 أعضاء مكتب تنفيذي و7 أعضاء هيئة إدارية) بالتعنت وعدم الاستعداد للتفاعل وتغييب مصلحة المنظمة التي أنهكتها الصراعات والتناقضات التي كثيرا ما خرجت عن هذه المصلحة، ولم يكفه ذلك بل نظم انقلابا على شاكلة الانقلابات الدستورية (انقلاب الأقلية على الأغلبية: مؤتمر قربة نموذجا) إذ وعوض أن تنعقد الهيئة الإدارية يوم 25 ماي لجأ زعتور لأصحاب العضلات المفتولة (أتباعه مع حضور عناصر مشبوهة) لينظموا الأحزمة البشرية من الباب الرئيسي للعمارة حتى الطابق الثالث أين يوجد المقرّ المركزي ليقع الإعتداء بالعنف على العديد من أعضاء الهيئة الإدارية (غسان بن خليفة...) الذين منعوا من الالتحاق بالمقر الذي لم تصله إلا الأقلية الموالية لزعتور (حضر بعض المناوئين له ليمضوا على قائمة الحضور ومن بعد وجدوا أسماءهم مذيلة لبيان أصدره زعتور!!!) والتي أمضت على قائمة الحضور وغادرت المقر بعد الاستيلاء على كراس النظام الداخلي وأهم الوثائق ثم تبديل قفل الباب على طريقة "الباندية" ومن ثمة الانسحاب، فما كان من الأغلبية (8 أعضاء مكتب تنفيذي و11 عضو هيئة إدارية) إلا أن عقدوا اجتماع الهيئة الإدارية في مدارج العمارة ليصدروا جملة من القرارات الجريئة وهي: سحب الثقة من "الأمين العامّ" و"أمين المال"، الدعوة إلى تنظيم ندوة نقابية في شهر جويلية 2002 للتفكير في حاضر ومستقبل الاتحاد تشارك فيها الأطراف السياسية بالجامعة وأصدقاء الاتحاد من الحركة الديمقراطية، العمل على انجاز المؤتمر الوطني في مفتتح السنة الجامعية والدعوة لضبط روزنامة توزيع الانخراطات وانجاز الانتخابات القاعدية، كما أدان اجتماع الهيئة الإدارية السلوك التسلطي والفردي لـ"الأمين العـامّ" السابق وتفريطه في استقـلالية المنظمة (شكل التفاوض، علاقتها بالحركة الديمقراطية...) وقد ساندت الأطراف السياسية (إ.ش، الوطج، شباب PDP، الطليعة الطلابية العربية) هذه القرارات داعمة كل توجه جدي لصون استقلالية الاتحاد وتصحيح أوضاعه وأصدرت بيانا في الغرض، وقد نظّم المكتب التنفيذي والأمين العام الجديد جمال التليلي حملة إعلامية لتوضيح التطورات الحاصلة، أما المخلوع فقد ارتمى كما هو منتظر على موائد أولياء نعمته مقدما خدماته: خدمات الوشاية وتقديم التقارير حول مناضلي الاتحاد والحركة، معتبرا ما جرى في قيادة الاتحاد "يقف وراءه طرف سياسي" قاصدا اتحاد الشباب الذي صبّ عليه جام حقده محددا عن وعي مرّة أخرى موقعه: مع السلطة ضد الحركة ومصطفا وراء الفاشية ضد القوى الديمقراطية، وعوض أن يتفاعل مع وضعية الاتحاد كوضعية داخلية تهمّ المنظمة وأعضائها ومنظوريها، راح يروّج يمنة ويسرة أن المجموعة المضادة له "يحركها حزب سياسي..." بل أنه لم يستح حين قال على أعمدة الصحف أنه "هو الأمين العام الشرعي لأن الوزارة تعترف به وأن وزير التعليم العالي قابله بعد 25 ماي وهنّأه بتجديد الهيئة الإدارية لثقتها فيه..." هكذا وبكل وقاحة، لقد غابت عنه الشرعية في هياكل المنظمة وأطرها فراح يبحث عنها عند الفاشية، وإننا نترفع مرة أخرى عن مجادلته ومجادلة بعض العناصر الفاشلة في الحركة الديمقراطية التي راحت توهم نفسها بدور الإفتاء والوعظ والإرشاد للحركة الطلابية والاتحاد، منصبة ذواتها أطرافا فاعلة وحاسمة في المعادلات الطلابية، من هؤلاء نذكر محمد الكيلاني وصالح الزغيدي الذي لم يخجل حين تحدث في جريدة "الصباح" عدد 16/6/2002 وكأنه عضو بقيادة الاتحاد أو طالب مرسم بالجامعة وهو الذي تجاوز الستين، يقول السيد صالح "... الهيئة الإدارية حضرها الأمين العام وحضرها ما يقارب 15 عضوا... مما يؤكد أن قانون المنظمة لم يُخرق وهذا ما يجعل كل محاولة قدح في شرعية القيادة الحالية وأمينها العام لا مبرر لها..." ويصل "الرفيق" اليساري (كما يقول في مقاله الصحفي) إلى بيت القصيد بقوله "...مفاهيم (...) تريد ان تحصر الاتحاد في "برج عاج ثوري نقي" وتجعل منه مجرد أداة إيديولوجية سياسية في خدمة خطّ معيّن وحزب ثوري معين أو مجموعة ثورية معينة...". ونحن نقول للسيد صالح -للأسف- أنه آخر مواطن تونسي يمكن له فهم علاقة الحزب الثوري بالمنظمات الجماهيرية، كما أنه آخر واحد يمكنه الحديث عن "البرجعاجية" وهو الذي يمثل نموذجا حيّا لتجسّد كل الأمراض التي يمكن أن تنخر "مناضلا" بورجوازيا صغيرا ضيّق الأفق ظل لسنوات طويلة عينة تستبطن كل انحرافات مثل هذا النوع من أشباه المناضلين، مثل السكتارية والانعزالية، وهو الذي ينطبق عليه المثل الشعبي المعروف "لا يندب لا يشدّ الطفلة"، كما نهمس -بالمناسبة- في أذن السيد صالح أن صحافة التعليمات لم تفتح صفحاتها له ولأمثاله (صديقه عيسى البكوش و...) لسواد عينيه بل لعقليته وممارساته التخريبية من ذلك ما عرف عنه من عداء مرضي (ونقول مجاني) لحزب العمال وإ.ش وكل المناضلين وعلى رأسهم اليساريين الذين يدّعي السيد صالح انتسابه لهم.
لنواصل:
إن التطورات الأخيرة إن أخذت مسارها الجدي وإن قدر مناضلو الحركة الطلابية من مختلف مواقعهم على دفعها في اتجاه تصحيح أوضاع الاتحاد وانجاز المؤتمر الديمقراطي، الممثل والمناضل، فإنه من شأنها إعادة الاتحاد لسكته الصحيحة من أجل استنهاض الحركة الطلابية لتأخذ موقعها الطبيعي كفصيل مناضل من أجل تحرر شعبنا وانعتاقه. فما هو البرنامج الأدنى الذي يمكن أن يوحّد اليوم جماهير الطلاّب وفعالياتها المناضلة؟
X- الحركة الطلابية ومهمّات المرحلة:
إن المطروح اليوم على الحركة الطلابية بحكم موقعها في الصراعات الوطنية والاجتماعية الدائرة رحاها في بلادنا، وبحكم دورها الهام في هذه المرحلة من تاريخ ونضال شعبنا الذي تقف الدكتاتورية الجاثمة على صدره حجر عثرة أمام تقدمه ونمائه، هو الانخراط اللامشروط في معركة الحرية والانعتاق كفصيل متقدم في الحركة الديمقراطية والتقدمية. وفي هذا الإطار يعتبر استنهاض الاتحاد العام لطلبة تونس، المنظمة التاريخية والمناضلة لعموم الطلبة، مهمة أكيدة لا تحتمل التأجيل، خاصة أن نية السلطة والمجموعة التصفوية المنصبة على رأس المنظمة (زعتور وفريقه)، واضحة وهي تتمثل في تحويل الاتحـاد إلى قطعة من الديكور الجديد الذي بدأت ملامحه تتضح. وبذلك يترابط النضال ضد السلطة الرجعية ومراميها في تدجين الاتحاد والحركة، وعصابة اليمين الانتهازي التي لا هدف لها سوى تفكيك المنظمة الطلابية وإبعادها عن مهامها الأساسية وإلهاء الحركة الطلابية وفعالياتها المناضلة عن المعركة الحقيقية، معركة الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتقدم.
إن اتحاد الشباب الشيوعي التونسي ووعيا منه بخاصيات هذه المرحلة الدقيقة سواءا في الجامعة أو البلاد، يطرح على عموم الطلبة وعلى فصائل والنزعات التقدمية هذه المحاور النضالية التي يراها ضرورية لتوحيد الصفوف الطلابية والارتقاء بلبنات العمل المشترك بين الأطراف الطلابية المناضلة، التي راكمت من التجربة ما يسمح لها اليوم بتعميق الوعي الحاصل بحتمية تكريس الوحدة النضالية في اتجاه بناء جبهة طلابية تقدمية، نقترح عليها المحاور الآتية للنقاش العام والواسع قصد الاثراء والإضافة والتفعيل العملي.
1 ـ على المستوى السياسي:
ـ الانخراط اللامشروط والعملي في معركة شعبنا وقواه الديمقراطية والتقدمية من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتقدم.
ـ خوض معركة فرض الحق في النشاط النقاببي والسياسي والثقافي المستقل والنضال ضد تواجد البوليس في الجامعة.
ـ الربط مع تقاليد الحركة: التعليق الدائم، التظاهرات، البيانات العلنية، الندوات، حلقات التقاش...
ـ رفض النشاط المسترخص، والتدخل الخطي في الاجتماعات العامة.
ـ إحياء ذكرى المحطات المضيئة: 3 جانفي، 5 فيفري، 30 مارس، 8 مارس، 1 ماي...
ـ التصدي لأعداء الحركة الطلابية والا.ع.ط.ت من "طلبة" دساترة إلى زمرة اليمين الانتهازي والمتعاونين معه.
ـ مساندة النضـالات الديمقراطية ضد الدكتـاتورية: العفو التشريعي العام، احترام الحريات الفردية والعامة، التصدي لتزييف الإرادة الشعببية وتمرير ديمومة التسلط الدستوري على البلاد: انتخابات 2004 وإعادة ترشح بن علي عبر تعديل "الدستور"، حل أجهزة البوليس السياسي...
ـ مساندة نضالات الحركة الشعبيية ضد الخوصصة والمناولة وغلاء المعيشة والبطالة والفساد.
ـ مساندة القضايا القومية والأممية العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية وخاصة في ما يتعلق بدعم الانتفاضة ومقاومة التطبيع بكل أشكاله، وكذلك مساندة العراق الصامد الذي يتعرض لهجمة امبريالية شرسة.
2 ـ على المستوى النقابي:
- خوض معركة استعادة الا.ع.ط.ت، باعتباره الممثل الشرعي والوحيد لعموم الطلبة عبر النضال بلا هوادة ضد الخط التفريطي المغتصب لإرادة المنظمة وكل المتعاونين معه.
- مساندة المسعى التصحيحي داخل قيادة الاتحاد والعمل معه من أجل إنجاز المؤتمر الوطني، المناضل والممثل والديمقراطي باعتباره شرطا أساسيا بتجاوز حالة التفكك والفراغ الحالية.
- التجند لصيانة الممارسة الديمقراطية داخل الاتحاد وذلك فيما يتعلق بتوزيع الانخراطات وإجراء الانتخابات القاعدية والمؤتمر وانتخاب القيادة (وكل الهياكل) على قاعدة التمثيلية النسبية.
- توسيع قاعدة الا.ع.ط.ت عبر توسييع قاعدة الانخراط فيه لعموم الطلبة (إلا الدساترة) في كل الآجزاء الجامعية.
- التجند المشترك والميداني لجعل محطة المؤتمر المقبل (انخراطات، انتخابات قاعدية، مؤتمر) محطة جماهيرية يشارك فيها أغلب الطلاب.
3 ـ على المستوى البيداغوجي والمادي:
تجنيد الطلبة على محاور تحرك ميداني يهم المشاكل البيداغوجية والمادية المتراكمة وتجنب الاختصارات السريعة لقضايا الطلبة وذلك بـ:
- إعداد الردود اللازمة الموثقة والمرقمة لمشاغل الطلبة، برنامج "إصلاح" التعليم، نظم الامتحانات، نسب النجاح والاخفاق، بطالة أصحاب الشهائد، الخدمات الجامعية، السكن، المنحة، الأكلة، النقل، الصحة، الأوضاع المادية للطلبة، الثقافة...
- تفعيل الساحة الطلابية على أساس محاور محددة تشترك القاعدة الطلابية في صياغتها وتحديد أشكال النضال بصددها، مثلا: مشكل السكن في بداية السنة الجامعية، ضوارب المواد وفترة المراجعة ونسبة الاحتساب قبيل الامتحان الجزئي...
- تشريك القواعد في صياغة القرار الطلابي عبر النشاط المكثف بالكليات والأحياء الجامعية والمطاعم وتوزيع البيانات والعرائض والاستمارات...
- بعث اللجان المختصة صلب الاتحاد وبالتعاون معه لدراسة الأوضاع الطلابية وتقديم المقترحات العملية التي يقع التحرك وفقا لها دعائيا ونضاليا (مثلا مقترح حول مقدار المنحة...) وإعادة الاعتبار للإضراب.
4 ـ على المستوى الثقافي:
ـ إن الثقافة واجهة من واجهات الصراع مع السلطة لذلك يجب إيلاؤها الأهمية اللازمة عبر التصدي لثقافة التمييع والتهميش وذلك عمليا بنشر الثقافة التقدمية والملتزمة.
ـ إعادة الربط مع تقاليد الحركة في بعث النوادي الثقافية الهادفة وإقامة التظاهرات المفتوحة لعموم الطلبة للمشاركة والابداع.
ـ اعتبارا لدور المكونات المناضلة في تشكيل وعي الحركة الطلابية، لذلك عليها بتنسيق جهودها من أجل نشر الثقافة الهادفة والدفاع عن الفكر العلمي عبر إصدار الدوريات العامة أو المختصة، والاعتناء بالجانب الثقافي والفكري في نشاطاتها وسط اللجماهير ويمر ذلك عبر تمويل الحركة بالمثقفين العضويين فعليا.
أواخر 2002

مـلحــق
وثيقة:
ملاحظات تقييمية حول عملنا في القطاع الطلابي

كشفت البرقية التي وجهت إلى بن علي في أعقاب المجلس الوطني الأخير (أوت 1992) لاتحاد الطلبة عن واقع سياسي وفكري مزر داخل قطاع الشباب الطلابي وأكدت مرة أخرى أن أخطر انحراف يتهدد حزبنا في الظرف الراهن هو بالفعل الانحراف اليميني أو الإصلاحي (...)، وإن كان شرح أسباب هذا الانحراف أو ذاك يبقى قائما باستمرار وهو ما يقتضي يقظة مستمرة.
ولعل مزية هذه البرقية أنها أنذرتنا قبل أن يتحول هذا الانحراف إلى خط يصعب تصحيحه دون اللجوء إلى عملية قيصرية وفي مرحلة ما زالت فيها إمكانية المعالجة قائمة عن طريق النقد والنقد الذاتي في كنف الوحدة. لكن ذلك لا يقلل في شيء من خطورة الانحراف المذكور ومن ضرورة معالجته بالحزم والعمق اللازمين لأن أي تعامل سطحي أو تبريري مع هذا الانحراف، سواء في القطاع الطلابي أو في غيره من ميادين نشاط الحزب من شأنه أن يؤدي إلى استمراره بشكل أو بآخر(هذا إذا لم يؤد إلى السقوط في نقيضه أي في اليسراوية).
نحن نعتبر "أن هذا السلوك (المقصود الانحراف الاصلاحي في السياسة) إذا استقر واستمر سيشكل قاعدة لبروز نزعة اشتراكية ديمقراطية، إصلاحية داخل الحزب تعزف عن النضال الثوري وتحصر تحركها ضمن النظام القائم". لذلك ومن منطلق الإسهام في معالجة هذا الانحراف نقدم الملاحظاتت التالية حول موضوع البرقية وما تخفيه من انزلاق نحو اليمين في سلوك رفاقنا العاملين في القطاع الطلابي.
أولا: إن البرقية الموجهة إلى بن علي من قبل الأمين العام للمنظمة الطلابية دون أن تقرها أية هيئة من هيئات هذه المنظمة، لا ينبغي النظر إليها كممارسة معزولة بل نتيجة لتراكمات سابقة أدت تدريجيا إلى انزلاق الرفاق نحو اليمين وفقدان البوصلة الطبقية وتبني مفاهيم إصلاحية، تعزل الحدث السياسي عن إطاره الطبقي الذي يندرج فيه وتهمل أو تغفل الجوهر أو الطبيعة الطبقية للطرف أو الأطراف الفاعلة فيه ونعني بذلك المنطلق الشكلاني الذي قاد في إرسال البرقية والمتغلف بموضوعية زائفة أي منطق:"من قام بعمل إيجابي نشكره ومن قام بعمل سيء ننقده" مع إغفال الطبيعة الطبقية لبن علي (رمز الفاشية الدستورية) والأسباب التي من أجلها اعتقلت المسؤولة النقابية (قضية حريات) والدوافع التي جعلت السلطة تطلق سراحها (غرض دعائي عشية انعقاد المجلس الوطني وفي ظرف محاكمة "الإخوان" واشتداد الحملة الخارجية حول موضوع حقوق الإنسان في تونس).
ثانيا: إن من بين المفاهيم الانتهازية الأساسية التي تسربت إلى أذهان بعض الرفاق الفاعلين في القطاع الطلابي، المفهوم الإصلاحي للعمل النقابي. فبصورة تدريجية وبشكل عفوي وتحت ضغط الأحداث اليومية والظروف الصعبة للنضال بالجامعة وحالة الجزر العامة في البلاد أخذ المفهوم الثوري للعمل النقابي يترك مكانه لمفهوم يهمل العلاقة العدائية مع الفاشية الدستورية ورموزها ويركن إلى معاالجة القضايا الجزئية، ويهمل القضايا العامة ويتخلى شيئا فشيئا عن الأشكال النضالية الثورية لفائدة المفاوضات الفوقية التي لا طائل منها. وتمثل الشرعوية (Legalisme)أحد أهم أركان هذه العقلية الإصلاحية وهي تبرز من خلال ما أشرنا إليه من تخل عن أشكال النضال الثوري الجماهيري، اللاشرعي لفائدة الأشكال القانونية أي بصورة أوضح التحرك ضمن ما تسمح به الأطر القانونية للفاشية الدستورية.
ثالثا: لقد كان الموقف من دور المنظمات الجماهيرية ومن العمل القانوني محسوما من قبل في الجامعة بالذات على الصعيدين النظري والعملي. فقد خاض الجناح الثوري في الحركة الطلابية وعلى مدى سنين طويلة صراعا لا هوادة فيه ضد النزعة الإصلاحية التي مثلتها عدة تيارات فكرية وسياسية (الحزب التحريفي، "المستقلون"، "العوالم الثلاث"...) تلتقي كلها حول نظرة الوفاق الطبقي و"حياد النقابات" التي تحصر دورها في النضال من أجل مطالب جزئية مباشرة، وتمكن هذا الجناح من إرسـاء مفاهيم وتقاليد نضالية جديدة في الجـامعة تعتبر الحركة الطلابية (بهيـاكلها النقابية بالطبع) جزءا من الحركة الشعبية يعمل على الإسهام في إسقاط النظام الدستوري وإرساء قواعد نظام جديد وطني وتقدمي.
كما حسم الموقف من العمل العلني القانوني على أساس أنه شكل من أشكال النضال يخضع باستمرار لأهداف الحركة وليس العكس. فكون الاتحاد منظمة قانونية لا ينبغي أن يؤدي إلى التنكر لخطه النقابي الثوري وسلوكه النضالي واستبداله علنيا أو ضمنيا بخط إصلاحي، أي بأهداف وأشكال مقبولة من طرف الفاشية الدستورية أو هي لا تخرج عن نطاق "إصلاحها". وبعبارة أخرى فإن العمل القانوني يجب أن يوظف لتقوية الحركة الطلابية بالرفع من مستوى وعيها وتنظيمها ومساهمتها في الحركة الديمقراطية والشعبية. وهو ما يعني المزج المستمر بين الأشكال القانونية واللاقانونية والاستعداد للظروف الصعبة التي لا يبقى فيها من امكانية للعمل إلا في الإطار اللاقانوني.
إن تكتيك الفاشية الدستورية كان ولا يزال (خاصة منذ 7 نوفمبر 87) يهدف إلى استعمال القانونية لمحاصرة المنظمة الطلابية وإخضاعها وتحويلها إلى مجرد قطعة من الديكور الديمقراطي وإذا استعصى عليها ذلك حلها وملاحقة مناضليها، مستعملة في ذلك أسلحة متعددة تتراوح بين القمع البوليسي والمحاكمات والتجنيد الاجباري وبين الضغوط السياسيية المباشرة وغير المباشرة (عن طريق العناصر الانتهازية) ومحاولات التخريب من الداخل بإثارة النزعات الفئوية و"شراء" بعض العناصر إلخ... وهكذا فإن القانونية كانت ولا تزال معركة طبقية لكل طرف من أطرافها (الثوريون من جهة والسلطة من جهة أخرى) أهدافه الخاصة منها.
رابعا: إن المفهوم الإصلاحي المذكور للعمل النقابي في الجامعة انعكس في عدة مواقف أهمها:
أ ـ الموقف من السلطة: لقد اتسم الموقف من السلطة بنوع من الوفاقية (وفاقية نسبية اجتنابا لكل مغالاة ولكل تحقير لمجهودات الرفاق) بدأت مؤشراتها في الظهور خصوصا منذ المؤتمر 20 وامتدت على السنة الجامعية 91-92 وانتهت إلى البرقية الموجهة إلى بن علي. ففي اللائحة النقابية للمؤتمر 20 حصلت تنـازلات ما كان لها أن تحصل وهي متعلقة بالإعلام المسبق بالإضرابات والإجتماع خارج الدرس (بصورة تكاد تكون مطلقة أو "مبدئية") والقبول بمبدإ توقيع البيانات من قبل المكتب التنفيذي (الاتحاد) حتى تكون صالحة للتعليق. وقد تم ذلك بعنوان "ترشيد العمل النقابي" و"قدسية الدرس" (واستعمال هذه العبارة في غير محله إطلاقا لأن "المقدس" لا يمس وبعبارة أخرى فالمساس بالدرس يتحول في الذهنية العامة إلى "تخريب"...) و"مواجهة التخريب الإخوانجي". ومن المعلوم أن صحافة السلطة هللت بهذه القرارات واعتبرتها "نضجا" إلى آخر الحكاية... لأنها جاءت في ظرف تسعى فيه السلطة إلى تقييد العمل النقابي والفكري والسياسي بالجامعة بقوانينها الفاشية الخاصة بالإجتماع والإضراب والنشر والصحافة علما وأن الجامعة بقيت الفضاء الوحيد الفالت عن الفاشية الدستورية منذ حوالي ثلاثة عقود. وقد وجدت في توصيات المؤتمر 20 منفذا إلى ذلك.
إن ما كان مطروحا على رفاقنا في المنظمة الطلابية، لتصحيح المسيرة الطلابية ومواجهة التيار التخريبي الظلامي ليس السقوط في مثل هذا التقنين للعمل النقابي والسياسي بالجامعة، بل القيام بعمل توعية سياسية وفكرية على نطاق واسع داخل الطلبة والسعي إلى تأطيرهم تنظيميا أقصى ما يمكن حتى يتحرروا من تأثيرات ذلك التيار ومن العديد من مظاهر العمل الفوضوي المضر. فالطلبة طالما أن ذهنياتهم لم تتغير فإنهم لم ينقادوا بـ"تعليمات" الاتحاد ومن السهل عليهم فهم أن الاتحاد يريد إخضاعهم للسلطة بمثل تلك التوصيات. وحتى إذا اقتنعوا بها قد يخلق ذلك لديهم ذهنية شرعوية. ثم إن الوجه الثاني لهذا الموقف الوفاقي من السلطة يظهر من خلال سيادة عقلية "المفاوضات" طوال ردح من السنة الجامعية. فقد انشغلت العناصر الأساسية للمكتب التنفيذي بالتفاوض مع السلطة (وزارة التربية، وزارة الداخلية...) دون أن تحدد لذلك سلوكا سليما ينطلق أولا من أن التفاوض هو تابع من توابع النضال الميداني وبالتالي لا يمكن أن يثمر إلا إذا كان مسندا بهذا النضال الميداني. وبالإضافة إلى ذلك لا بد من التحكم في عملية التفاوض: ضبط محاور التفاوض وآجاله وإلزام الطرف المقابل بمحاضر جلسات واتفاقيات علنية. ثم إن شعار "النقابة هي التي تحقق المطالب للطلبة" لا ينبغي أن يتحول إلى لهث وراء مكاسب جزئية وظرفية على حساب الأهداف العامة للحركة. لقد استغلت السلطة عدم خبرة الرفاق وعدم تحكمهم في المفاوضات لمماطلتهم وإضاعة وقتهم وصرف اهتمامهم عن العمل القاعدي والتخطيط للنضالات. وقد برزت مخاطر هذه العقلية أثناء إلغاء الإضراب العام الأول (مارس92) في آخر لحظة وعلى قاعدة وعود شفاهية تراجعت وزارة التربية لاحقا في جزء منها ولم تلتزم وزارة الداخلية بتنفيذ البعض من جزئها الآخر (إبعاد "الأمن الجامعي" عن الكليات...) إلا في بعض المؤسسات. وفي بداية هذه السنة الجامعية تراجعت عن التزامها وأعادت البوليس إلى رحاب الجامعة كما كان خلال السنة الجامعية المنصرمة. ثم إنها ظهرت من خلال إلغاء الاجتماعات العامة بمناسبة الاضراب العام الثاني (15أفريل – مساندة ليبيا) نتيجة تحذير وزير التربية بأن البوليس سيتدخل إذا انعقدت تلك الاجتماعات العامة. ولم تكن بقية المواجهات مع السلطة (وهي مواجهات كان وراءها الرفاق والرفاق فقط) سوى مواجهات جزئية وغير متماسكة. إذ غابت المتابعة الجدية لمخطط استنهاض الحركة الطلابية تدريجيا الذي رسم في بداية السنة الجامعية والهادف إلى بلوغ درجة تعبئة مناسبة بعد أشهر لطرح المطالب الطلابية الأساسية.
ومن ناحية أخرى فقد ظهر ذلك الموقف من السلطة في التوجه لبن علي تارة لـ"مناشدته" من أجل تلبية مطالب الاتحاد (الأمين العام: المقابلة الصحفية مع جريدة "الصحافة") وتارة أخرى لفض بعض المشاكل... وهو سلوك يعزز عقلية الحكم الفردي التي يريد النظام ترسيخها وينشر الوهم حول زعيم الفاشية الدستورية ويقدمه على أنه هو "شيء" وحكومته "شيء آخر" وهو نفس السلوك الذي يتبعه زعماء الأحزاب الليبرالية والإصلاحية وقيادات المنظمات المهنية (اتحاد الشغل...) منذ العهد البورقيبي. إن الرجعية تحرص على ترسيخ ذلك السلوك لوعيها بأن الحاكم الفردي، أي رئيس الدولة هو الضامن لمصالحها أولا وقبل كل شيء لما له من نفوذ قانوني وعملي. لذلك الغرض فهي قد تقبل بانتقاد الوزير أو حتى الحكومة للتضليل. المهم أن لا يمس رئيس الدولة، رمزها وحـامي مصالحها. وهو يظهر أيضا من خـلال عقلية الخوف من المواجهة التي ميزت سلوك العديد من المناضلين الذين رأيناهم يستنجدون بمظلة اتحاد الطلبة كمنظمة قانونية للقيام ببعض الأنشطة ويتخلون عن نشاطهم المستقل، عدا في فترات محدودة. وأخيرا وليس آخرا لا بد من الإشارة إلى الليبرالية المفرطة التي ميزت سلوك الرفاق في الاتحاد، إزاء البوليس وإزاء السلطة (...).
ب ـ الموقف من الطلبة الدستوريين: يمثل الموقف من الطلبة الدساترة صورة أخرى لليبرالية الرفاق في الاتحاد إذ لم يقع التعامل معهم عمليا كامتداد للفاشية الدستورية في الجامعة إذ لم يقع التنبه إلى ما يشكلونه من خطر على الحركة الطلابية في وقت تتميز فيه السياسة العامة للحزب الحاكم بالسعي إلى افتكاك ما خسره من نفوذ في مختلف الواجهات وخاصة على الواجهة الطلابية مستعملا كل أساليب التخرييب من قمع وارتشاء إلخ... لقد كان رفاقنا يظهرون حدة كبيرة عندما يتعرضون في الصحافة لـ"الإخوان" ويعلنون أنهم سد منيع في وجههم، لكنهم لا يظهرون نفس الحزم حيال الطلبة الدساترة العاملين في الظل وبشكل تدريجي لبسط نفوذهم (...). بل إن بعض الرفاق كانوا يردون على أسئلة الصحافيين كلما أثيرت مسألة الطلبة الدساترة "لكل طالب الحق في الانخراط..." ويحجمون عن مواجهتهم كقوة فاشستية وعن تنبيه الطلبة لخطورتهم. ونتيجة لذلك بدا أحيانا أن ذلك التطرف اللفظي في الهجوم على "الإخوان" كأن القصد منه تطمين السلطة بأن الاتحاد يقوم بمهمته ضد "الإخوان" وكأن تلك المهادنة للطلبة الدساترة "انفتاح"على السلطة وتأكيد على "اعتدال" الاتحاد و"عدم تطرفه" و"روحه المسؤولة" و"ديمقراطيته" (قلنا كأن للتأكيد على الطابع الموضوعي لمغزى ذلك السلوك. فالأعمال في السياسة لا تقاس حسب نوايا أصحابها بل حسب مغزاها في المجرى الموضوعي للأحداث...).
إن هذا السلوك لا يمكن تفسيره إلا بتناقص اليقظة الطبقية حيال الفاشية الدستورية، وليس من السليم أن يفسر بالمواجهة الرئيسية مع "الإخوان" القوة الرجعية الأساسية في الجامعة، فرفاقنا لم يفلحوا في مواجهتهم (ولو إلى حد) إلا لأنهم كانوا يبادرون بالنضال ضد السلطة ويدافعون عن مصالح الطلبة ويثبتون جدارتهم بقيادتهم. ثم إنه وبعد قمع "الإخوان" وغيـابهم عن السـاحة كان من المفروض تعديـل التكتيك بسرعة والتركيز مباشرة على "الدساترة" الذين سيتصدرون مباشرة القوى الرجعية في الحركة الطلابية مستندين إلى وقوف السلطة وراءهم بامكانياتها المادية وأجهزتها البوليسية. وهو ما لم يتم من قبل رفاقنا الذين استمروا في انتهاج سلوك ليبرالي معهم، مما جعلهم يستغلون الوضع للتسلل إلى بعض الأجزاء الجامعية (- حضر الذكرى 40 لتأسيس اتحاد الطلبة بعض العناصر القيادية وقد ذكرت مجلة "حقائق" أنهم دعيوا من قبل المكتب التنفيذي... الذي لم يكذب الخبر – حضر محمد الغرياني الكاتب العام لمنظمة الطلبة الدساترة أشغال لجنة السكن والخدمات الجامعية التابعة للوزارة في حين أن اتحاد الطلبة لم يدع بالمرة... ومع ذلك فإن المكتب التنفيذي أحجم عن إصدار بيان في الموضوع...)
ج ـ الموقف من العناصر الانتهازية العميلة للسلطة: إن الموقف من هذا الصنف من العناصر التي تعمل في ركاب السلطة وتتولى مهمة محاولة ترويض قيادة الاتحاد وتخريبه بأشكال خبيثة مقابل منافع شخصية، هو تعبيرة من تعبيرات الانحراف الذي وقع فيه الرفاق. فرغم تصريحات بعضهم حول تفطنهم لمخططات هذه العناصر وقدرتهم على إفشالها، بل وعلى توظيف تلك العناصر كاحتياطي لتقديم بعض الخدمات للحركة الطلابية (...) فإن ما وقع على أرض الواقع يؤكد أن اليقظة لم تكن حاضرة دائما وخاصة في الأشهر الأخيرة من السنة الجامعية وأن تلك العناصر نجحت أكثر من مرة في توظيف الاتحاد لخدمة أغراضها. ويمثل التعامل مع الأمين العام الأسبق (س.ع) نموذجا لسلوك رفاقنا الخاطئ. فرغم الوعي منذ مدة (بعد المؤتمر 19 خصوصا) أن هذا العنصر مريض بالزعامتية ووطد علاقاته بالسلطة (مع بعض مستشاري الرئاسة والوزراء...) وحصل على مقعد في المجلس الاقتصادي والاجتماعي وأصبح يحلم بالحصول على منصب في إحدى المؤسسات، فقد تواصل التعامل "الودي" معه، خاصة وأنه ظل يتظاهر (ماعون صنعة) بالوفاء للاتحاد وبالصداقة مع قيادته ومع حزب العمال. إلا أن وجهه انكشف بصورة نهائية عندما أمضى يوم 20 مارس 1992 على الميثاق الوطني خارقا بذلك مقررات الاتحاد الذي سبق له أن تولى أمـانته العامة، وحضر بعد ذلك ندوة الطلبة الدسـاترة التي ترأسها الشاذلي النفاتي وأثنى عليهم في تعليق نشرته الصحافة، وسفره إلى كندا لحضور ندوة منظمة من قبل بعض الدوائر الامبريالية الأمريكية (حضر الندوة كيسنجر وغيره...) ليدافع عن "احترام" سلطة السابع من نوفمبر للديمقراطية وحقوق الإنسان ردا على ما كان صرح به رئيس الرابطة الكندية حول الانتهاكات التي تتعرض لها في تونس. ولكن رغم هذه المواقف المخزية فقد أبقى بعض الرفاق على صلتهم به وأعادوه إلى مقر الاتحاد رغما عن أنف رفاقهم وهو ما مكنه من مواصلة أداء مهمته القذرة في تخريب المنظمة مستفيدا من المظلة التي وفرها له بعض المناضلين.
ولئن دل هذا على شيء، فهو أن الموقف من الفاشية الدستورية لم يعد يمثل مقياسا حاسما في تحديدهم لصديقهم من عدوهم ولم تعد بالتالي العمالة للفاشية الدستورية تستثيرهم. وربما اعتبروا موقفهم الوفاقي مع هذا العنصر تحت وطأة ضغط العقلية البرجوازية الصغيرة، علامة على "السلوك الحضاري" في حين أنه علامة على الليبرالية.
إن الثوريين مدعوون إلى المرونة في سلوكهم التكتيكي وإلى استغلال كل التناقضات في صفوف أعداء الحركة الطلابية للتخفيف من وطأة الهجوم الفاشي عليها والمرور بها من حالة الجزر التي هي عليها إلى حالة المد، وهو ما يجعلهم يلتقون في طريقهم مع عناصر مختلفة في درجة عدائها للحركة وفي مدى ارتباطها بالسلطة وهو ما يقتضي منهم القيام بمناوارات عدة لتحديد أرضية التعامل مع كل منها، لكن ذلك لا ينبغي أن يتم على حساب المبادئ والأهداف الأساسية للحركة. وحتى لا يحصل هذا الانحراف، من واجب الثوريين التحلي باليقظة المستمرة حيال تلك العناصر ونقدها باستمرار حتى لا توهم القواعد الطلابية أنها "صديقة الاتحاد والحزب" وتمرر مواقفها وكأنها تلقى منا المساندة وتتظاهر للسلطة أن لها نفوذا على الحركة. وهذا من شأنه إما أن يوقع جزءا من الطلبة في شراك تلك العناصر أو يبعث الاعتقاد في جزء آخر بأن قيادة الاتحاد حادت عن أهدافه التقدمية فينفر منها ويسقط تحت تأثيرات التيارات المعادية وخاصة "الإخوان" أو بعض المجموعات اليسراوية (إن وجدت طبعا...).
خامسا: هذه جملة الملاحظات الأساسية حول بعض الجوانب من سلوك رفـاقنا السياسي في الاتحاد. وتمثل الأخطاء والانحرافات التي أتينا على ذكرها، تراجعا لا فقط عن الخط النظري والسياسي للحزب الذي ينتمون إليه أو يتعاطفون فكريا وسياسيا معه بل وكذلك على مكاسسب الحركة الطلابية التي قطعت خلال مسسيرتها النضالية مع الرجعية الدستورية على كل الأصعدة الفكرية والسياسية والتنظيمية. ولا يمكن للمرء أن ينكر أن ذلك كان من العوامل الأساسية التي ساعدت على انحصار تأثير المنظمة الطلابية وعجزها خلال السنة المنقضية عن تعبئة الطلبة ضد الرجعية الدستورية على الوجه المطلوب وفقدانها لثقة العديد من أصدقائها وأنصارها وتنامي روح الانحلال في صفوف مناضليها. وإذا ما أردنا البحث عن أسباب هذا الوضع السلبي فلا بد من الإشارة إلى جملة العوامل الموضوعية والذاتية التي أسهمت بهذه الدرجة أو تلك في نشأته.
إن أهم العوامل الموضوعية التي تستدعي الانتباه هو صعوبة الظرف الذي انطلقت فيه الحركة الطلابية خلال السنة الجامعية الماضية والمتميز باشتداد الهجمة الفاشية (عسكرة الجامعة عسكرة تامة، منع حرية العمل النقابي والسياسي إلخ...). وقد تداخل هذا العامل مع عامل آخر وهو ضعف القاعدة الجماهيرية للاتحاد وهشاشة هيكلته وعدم انسجام قيادته. ومن البديهي أن السقوط في أحادية الجانب أمام وضع كهذا، أمر سهل إذا غاب التحليل المادي الجدلي فمثل هذا الوضع يمكن أن يولد، حسب الظروف، ردة فعل يسراوية كما يمكن أن يولد ردة فعل يمينية. ولأن الحركة كانت في حالة جزر والمنظمة ضعيفة والنقد مركز على اليسراوية فقد تم السقوط في الانحراف اليميني.
لقد أصبحت "صعوبة الظرف" ذريعة لدى بعض الرفاق للتخلي عن المواجهة والاستكانة أو لتبرير عدم رفع هذا المطلب أو ذاك وتقديم هذا التنازل أو ذاك أو تضخيم كل مكسب حتى ولو كان وهميا في بعض الأحيان. وبهذه الصورة ازدادت قاعدة الاتحاد تقلصا: فالاتحاد عندما يناضل يجلب الجماهير إلى صفوفه وعندما يتراجع تتقلص هذه الصفوف (أنظر أيضا تجربة المنظمة الشغيلة). لذلك كان من الواجب في مثل تلك الظروف الصعبة إعطاء أولوية للعمل المتأني والثابت في صلب القاعدة الطلابية (دعاية وتحريضا وتنظيما) لاستنهاضها تدريجيا وملء الفراغ الذي تركه انسحاب "الإخوان" من الجامعة وسد المنافذ أمام عودة الطلبة الدستوريين وتخصيص بعض الطاقات لما عدا ذلك من أعمال (تفاوض، إدارة الشؤون اليومية والعلاقات الخارجية للمنظمة إلخ...).
لكن الذي لم يساعد على تبني مثل هذا التمشي هو الواقع الذاتي للاتحاد. فبالإضافة إلى ما ذكرناه من تقلص لقاعدته الجماهيرية وهشاشة هياكله فإن المستوى الفكري والنظري والسياسي ظل ضعيفا، وهو أمر ناجم عما عاشه كل مناضل منهم من إهمال خلال مسيرته وغياب التأطير اللازم.
ومن العوامل التي ساهمت أيضا في ظهور هذا الوضع السلبي داخل الاتحاد غياب علاقات ديمقراطية سليمة بين الرفاق، فالفردانية هي المظهر الأساسي في تلك العلاقات، وهو ما ولد حالة من التفكك وعدم الثقة بين الرفاق وبدأت تظهر مؤشرات تكتل وسجلت بعض الاستقالات والانسحابات(...)

Aucun commentaire: